القدرة الهائلة للساسة اللبنانيين على اعتصار الماضي وإعادته من جديد لا تساويها أية قدرة عربية، فكل حروب لبنان الأهلية بدأت بشرارة التجديد أو التمديد للعهد القائم، ومع ذلك تعاد الكرة وتتكرر من أجل تربيع الدائرة، ولا يريد أحدٌ أن يتذكر... فمنذ فترة زمنية ليست بالقصيرة ظهرت فكرة التجديد أو التمديد للرئيس الحالي مع تباشير الشتاء الماضي، وبقيت تدور في المنتديات اللبنانية الصحافية أولاً ثم السياسية، مكتومة حتى تفجرت الأسبوع الماضي، بالمشاورات العلنية التي تمت في دمشق، ولحقها إعلان الرئيس الحالي العماد اميل لحود، في الإعلان عن رغبته في التجديد التي يأمل أن يوافق عليها مجلس النواب اللبناني.
قد يكتب اللبنانيون في هذا الموضوع منتصرين لطرف ضد آخر، أو متحزبين لهذا أو ذاك من الرجال، او ربما النساء لا فرق، أما المراقب الخارجي فينظر الى القضية بتداعياتها الإقليمية والمستقبلية، أكثر مما ينتصر لشخص أو تيار بعينه.
فرئيس الجمهورية الحالي لبناني وعربي ووطني، لن يكون القادم أفضل منه، ولكن المطروح هنا ليس الشخص، وإنما الفكرة، وهي تنحصر في تطبيق النصوص المتفق عليها في الدستور مسبقاً أو تغييرها بسبب ظرف وان كان غير طارئ.
والسؤال هل عصرنا الذي نعيش (وهو عصر ما بعد غزوة 11 سبتمبر/ أيلول 2001) يتوافق معه إبقاء الحال على ما هو عليه، أم انه عصر يجبر الجميع على «الإصلاح» بما فيه تفعيل النصوص دون الإخلال بها، وهي مقدمة للإصلاح المبتغى، ومنها احترام نصوص الدستور اللبناني، الذي ان غير بهذه السرعة، وفي هذا الظرف ولهذا السبب لن يبقى كثير من النصوص مفعلة وقابلة للاحترام العام.
دارسو السياسة يقولون لنا ان الحكومات في المجتمعات الغربية قد قدمت الكثير من الإصلاحات في الحكم، ليس بسبب الضغوط التي واجهتها فحسب، بل وأيضاً كون النظام الرأسمالي يريد أن يخلق سوقاً لتصريف منتجاته المتكاثرة، ومن دون استقرار لن يتم ذلك. لذلك فقد تم إصلاح القوانين بحيث تقوم على حقوق واضحة وواجبات محددة للجميع، من أجل تمكين دورة الأعمال والمصالح من إنفاذ قوانينها التي هي في نهاية الأمر خير للجميع.
لقد أدمجت الدول الصناعية الغربية «فقراءها» في نسيجها الاقتصادي بنجاح، ليس بسبب موقف أخلاقي، بل بسبب حاجة اقتصادية وأمنية، وظهرت فكرة المساواة القانونية كفكرة أصيلة في تسيير النظام الرأسمالي. في طوره الثالث، الرأسمالية ما بعد الصناعية، وتم ذلك في مجتمعات يفصل بينها حدود، وتقيم حولها سيادة، منذ القرن الماضي. أما العالم اليوم مع «العولمة» المتفوقة، وآثارها الواسعة التأثير، فهي تعيد صوغ ما تم في المجتمعات ذات الحدود السياسية المحدودة في السابق، وتنقلها للتطبيق على مستويات مجتمعات العالم. أي أن الشروط المسبقة لاقتصاد السوق، في المساواة القانونية، أصبحت واجبة التطبيق على النطاق العالمي، أي سيتم إدماج مجتمعاتنا وغيرها في النسيج الاقتصادي الدولي بشروطه، مادمنا قد وافقنا على الطريق الرأسمالي للتطور، ومن أهم معالم طريق الدمج، التقييد بالتداول السلمي للسلطة عن طريق تطبيق القانون، على قاعدة «ما أن يصلح الرأس حتى يصلح الجسم».
والتجربة في توسيع نطاق السوق الأوروبية المشتركة، التي أصبحت جارتنا نحن العرب أو أكثرنا، تقف شاهداً على ذلك، فقد توسعت بفرض شروط مسبقة للإصلاح السياسي والاقتصادي في المجتمعات التي أرادت الدخول في السوق. ومن لم يقدم على الإصلاح، أصبح خارجاً غير مقبول.
ولعل التجربة التركية مفيدة في هذه الإشارة، فهي تتوجه بفاعلية للتناغم مع الشروط التي أصبحت ضرورة للإشراك في عالم يصغر على نفسه كل يوم، وحتى الآن فان تجربتنا، في بعض جوانبها لم تتواءم مع الشروط العامة.
كل ما هو مفيد وملموس ومرئي اليوم يأخذنا الى القول ان التداول في السلطة هو صمام أمان للإصلاح أو للسير في طريق الإصلاح، وان الرئاسة في بلد مثل لبنان يفخر أن لديه رئيساً سابقاً على قيد الحياة، حراً وطليقاً، يجب أن يسير الى الأمام دون الرجوع الى الخلف.
فمعركة التجديد أو التمديد إذاً ليست لبنانية، ومن يتصور انه يقدم خدمة للبنان عن طريق دفع الفكرة حتى تأخذ موقعها في القبول، إنما يضر نفسه أولاً قبل لبنان، لأن الاضطراب اللبناني - إن حصل، بجانب كل هذه الاضطرابات من حولنا - سيحوّل منطقتنا إلى بؤرة ملتهبة تحرق أبناءها أولاً ثم البعيدين، ولبنان على غير استعداد أن يحرق نفسه.
لقد أصبحت هناك قناعة واسعة لدى طيف كبير من المتعاطين اللبنانيين بالسياسة أن التغيير هو خلاص، من حيث المبدأ، من قاعدة تكاد أن ترسخ في الجوار اللبناني، وفي الوقت نفسه التواؤم مع المستجدات، وقد أصبح هذا خياراً عربياً وشعبياً.
وإذا نظرنا الى بيان الاسكندرية في الربيع الماضي، وما تلاه من بيانات من بيروت الى القاهرة الى الدوحة، فيما عرف ببيانات الإصلاح العربي، مروراً بما تبناه اجتماع القمة العربي الأخير في تونس، نجد أن الطلب مرتفع على أهمية تجديد الدماء في الحكم. حيث الشخص الجديد، قد يأتي بأفكار جديدة، والأهم أن الشخص السابق في القيادة يعود الى صفوف الناس، ويرى من تحت، ما هي الأفكار التي طبقها وتحولت الى قوانين، تنفع أو تضر، لأنه سيكون أحد مستقبلي المنتج الذي ساهم في صنعه أو منعه.
في بيروت تقابل من يجادل، وهم أقلية، بالجهر إذا كان التجديد للكرسي الأول متعذراً، وان الدماء الجديدة مفيدة، فلماذا لا يجري التجديد على الرئاسة الثانية (رئاسة الوزارة) والثالثة (النواب)، وهو رأي يبدو لأول وهلة سديداً، إلا أن تفحصه بعناية يظهر الخلل فيه حيث يبدو تعجيزاً.
فالرئاسة الثانية والثالثة هي نتاج الرئاسة الأولى في لبنان وفي غيره، وليست أصلها، بمعنى أن الرئيس الأول يستطيع أن يكلف من يراه في الرئاسة الثانية، أما الرئاسة الثالثة فهي خاضعة لتوافق نواب الشعب اللبناني، ويحدد الدستور على كل حال، آلية وصول الرئاسة الثانية أو الثالثة الى كرسي القيادة.
إن تم التمديد في لبنان أو التجديد، بصرف النظر عن الأشخاص، فستصاب حركة «الإصلاح» العربية بنكسة رمزية، فان لم يتوفر التداول السلمي للسلطة في بلد عربي مثل لبنان «لا يموت الرئيس السابق فيها ولا يُعمر على الكرسي أو يقتل»، فكيف يتوفر في بلد آخر؟! هنا تأتي أهمية المعركة الدائرة اليوم على صفحات الصحف اللبنانية، وبين سياسيي لبنان، لكن يخطئ من يظن أنها لبنانية فقط
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 725 - الإثنين 30 أغسطس 2004م الموافق 14 رجب 1425هـ