في مقال هو جوهرة في جوهره، ونوراً ساطعاً سطوع الشمس في مخبره ومظهره كتب محمد العثمان، الذي لا أعرفه شخصياً ولا تربطني به رابطة وإن شاهدته هنا أو هناك يحاور أو يرمي مداخلة في الشأن العام، مقالاً في صحيفة «الوسط»، في عمود «وجهة نظر»، الخميس السادس والعشرين من الشهر الجاري، بعنوان: «المقاومة والصدر وأتباعه... والخائنون»، سطر فيه رأياً جريئاً موضوعياً ذا علاقة بالشأن العراقي وخصوصاً بما كان يدور في ساحة النجف من حربٍ ضروسٍ على الأصعدة كافة. الأجمل في كل ما كتب هذا الإنسان بقلمه الجيد: لغة يعمل العقل فيها. فهو بكل بساطة لم يسمح لقلمه أن يسطر منذ الحرف الأول لمقاله مفردة ذات مدلول طائفي أو عرقي، هنا مثال نقتطفه من البداية: «لعل الموقف الذي اتخذه الشاب المسلم مقتدى الصدر»، نراه هنا وعلى خلاف كل الكتاب الذين يكتبون وأعرفهم أبعد المفردة التي تضع هذا الثائر في خانة طائفة معينة ووضعه في خانة الوطن الكبير والإيمان الكبير: الإسلام الكبير، وأضاف قائلاً: إن «الثقافة التي يستقي منها هذا الشاب وتياره ذو جذر مقاوم لا يستهان به»، فالكاتب يعود بفكر هذا القائد إلى بدايات الإسلام إذ المقاومة التي لاتلين، إذ لا فرق بين أبيض وأسود وإذ «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا».
ثم هو يعود بالفضل إلى «ثقافة المحيط العراقي» إذ التاريخ يضرب في أعمق نقطة في الزمان والمكان. من جديد كاتبنا يتجنب المفردات ذات المدلولات الطائفية والعرقية، فالعراق شاملٌ، كلٌ لايتجزأ لكل العراقيين ولكل الشرفاء الذين لم تخفهم أو ترعبهم صيحات سيد الموهومين في ذلك الزمان المظلم «متى أضع العمامة تعرفوني» أو «أرى رؤوساً أينعت وحان قطافها»، ولم تخفها صرخات سيد الموهومين لهذا العصر الذي هرب من قدره المحتوم إلى قدر آخر؛ «العراق» بالنسبة له ذاك «الذي يرفض الإحتلال» ويعود به إلى الأمة إذ تساند بعضها بعضاً لا فرق بين طائفة وطائفة، لا فرق بين عرق وعرق، لا فرق بين لون ولون، سوى بـ «العمل الصالح»؛ وهو عبر فقرته الأولى يجد في مفردات «الشاب المسلم» قلباً يضم الجميع في ثناياه، ويدعنا نتأمل في لغةٍ نمتلك زمامها ويالها من لغة عربية عظيمة توحدنا ولا تفرقنا، تضحكنا لا تبكينا، لغة تفعل ذلك إذا ما منحناها الفرصة المبنية على الثقة والحوار البناء؛ نعم ما أحوجنا إلى نفض الغبار عنها وتجنيدها لتخدم عصر العقل لا لتخدم عصر الجهل والتخلف الذي يريد البعض منا أن يورثنا إياه شئنا أم أبينا جيلاً بعد جيل، وكأننا «أمَمّ أمْثَالكُم» لا يصح لها ولايصلح سوى الذبح والسلخ وفقأ العين وشتم أمهاتها وكسر أبواب منازلها، وإذا لزم الأمر ضربها من الخلف وكسر أضلاعها.
وهو أيضاً يفاجئنا بخطاب سياسي عقلاني حين يذكر: «وعلى رغم السكون المخيّم على دول الجوار» هنا نحن لا نعرف من هي تلك الدول وعلينا التخمين بناء على المعطيات التي نملكها لا التي ملكونا إياها غصباً وعدواناً؛ ثم هو يضيف «والترقب الجبان من عدة دول» هنا أيضا لغة نظيفة لا تحديد فيها للجبناء الذين يرعبون الناس وهم في مساكنهم وهم يراقبون من بعيد، بل الأدهى من كل هذا انهم يمشون في جنازات قتلاهم وكل الذين نقصوا حياتهم. والكاتب حين يذكر «إيران» ورئيسها «خاتمي» هنا أيضاً يبتعد عن مفردات العرقية المشبعة بمفردات طائفية منتقاة من مزابل التاريخ، ويأتي بمفرداتٍ طُهر تبعد الإنسان عن ميكافيلية العصر.
أما عن المقدسات الاسلامية في فكر الكاتب فهي لا تخص طائفة دون طائفة، بل هي تراث لكل العرب والمسلمين دون تحديد، فهو يرى العدوان على «النجف» «استباحة لمقدس من مقدسات المسلمين، مرقد الخليفة الرابع (كرَم الله وجهه)، ويتساءل من ثم في دهشة غاضبة «أنه لم يعد هناك محرمٌ عند تلك القوة وحلفائها، ومادامت النجف، بكل ما تحمله من قدسية، تم انتهاكها، فأي شيء بعدها يبقى محرماً أو غير قابل لتدنيس قوات الاحتلال؟» هل الدور - يتساءل الكاتب - قادماً على «قم» المدينة الإيرانية أو «دمشق» إذ المساجد التي صمدت في وجه الطغاة والغزاة أو «مكة المكرمة؟».
ويبارك الكاتب موقف السيد مقتدى الصدر «المُشرّف»، من دون أن يحدّد نوعية إسلامه أو طائفته، فهو بالنسبة له «قنديل ينير طريق الثائرين والمقاومين»، واسمه سوف «يكتب في صفحات التاريخ بأحرف من نور».
يعترف العثمان في ختام مقاله بأن الحكومات الخائنة دون تحديدٍ لها لكون المفردة «حكومات» تنطبق على أي حكومة لا تضع في إعتبارها الشعب بكل فئاته من رموزه إلى فتاته، مصيرها يُخط «بعبارات من قار أسود» كالح السواد يضيف إلى ذلّها ذلاً في قائمة ذِلها الطويلة. المصير ذاته يتوقعه الكاتب لـ «المتفرجين» على ما يحدث للأمة من مهانة من دون أن يسهموا في رفع الغمة عنها.
يختتم الكاتب بصرخة تبتعد عن الطائفية والعرقية بعد السماء عن الأرض، لتأخذ الوطن بالحضن وتضعه بشغاف القلب، فأبطال العراق سواء في «الفلوجة» أو «النجف» من أتباع «السيد مقتدى الصدر» أو من أتباع غيره سيخلدهم التاريخ على صفحات الوطن الذي كتبوا تاريخه وبطولاته بدمائهم الزكية، دون أن يركعوا لكل قوى التخلف والقهر، أو لكل الشرذمة التي لا تعرف سوى البطش بعباد الله من دون وجه حق يذكر.
شكراً أخي محمد العثمان، ومدّ الله في عمر قلمك الجوهرة وزاد في مداده النير لوطن الجميع من دون تمييز
العدد 724 - الأحد 29 أغسطس 2004م الموافق 13 رجب 1425هـ