قبل الإجابة على السؤال الذي انتهت به الحلقة الأولى التي نشرت أمس، وهو إن كانت جمعية العدالة والتنمية التي أعلن الناشط نزار البحارنة وآخرون عزمهم على إنشائها، يمكن أن تحقق أهداف التعددية الشيعية، أم انها «حركة في الهواء»، تكمن أهميتها في دلالات الحدث التي تشير إلى عدم قدرة «الوفاق» على استيعاب تنوعها، وبالتالي قدرة «المتربصين» على البناء على حركة البحارنة ومشايعيه...، قبل الإجابة على ذلك أشير إلى ملاحظتين:
الأولى: على رغم وجود جمعيات سياسية كثيرة (نحو 14 جمعية سياسية)، بعضها ذات تاريخ نضالي لا ينكر، مثل «العمل الوطني الديمقراطي» (وريث الجبهة الشعبية)، و«المنبر الديمقراطي التقدمي» (وريث جبهة التحرير)، و«العمل الإسلامي» (وريث الجبهة الإسلامية)، فإن هذه الجمعيات لا تبدو مقنعة للقوى الراغبة في الانشقاق عن تيار «الوفاق»، وتعمل على تأسيس جمعيات أخرى من رحم تيارها الواسع.
ويمكن إرجاع ذلك إلى أمور عدة، بعضها خاص بطبيعة التركيبة الشيعية، وبعضها الآخر يطال تعقيدات المشهد السياسي الوطني المنكفئ على الذوات الخاصة، بفعل ما قد يسمى تضارب المصالح، واسقاطات الماضي القريب والبعيد، ونشاط السلطات الممنهج والواعي والمستمر، القائم على «فرق تسد»، وضعف أفق الناشطين السياسيين والمؤسسات الحزبية التي لم تستطع توفير حد أدنى من الاجماع الوطني في مواجهة السلطة المحتكرة للقرار والمال.
كما يعود عدم اقتناع الناشطين الشيعة بالتكوينات الحزبية القائمة إلى كونها بنيت على مرتكزات الماضي لا الحاضر، وافتقادها العمق الشعبي، ويتجاوز ذلك كونها يسارية المنشأ فحسب، ذلك أن جمعية العمل الإسلامي يقودها رجل دين شيعي معروف بمواقفه السياسية المعارضة، لكنها غير قادرة على أن تشكل البديل المنشود بالنسبة إلى النخبة والجمهور الشيعي بسبب بنائها المنسجم مع مزاج السبعينات والثمانينات... وفي ذلك نداء عميق لإعادة النظر في التأسيسات القديمة لتواكب معطيات الحاضر، وتتنبه لمتطلبات المستقبل.
الملاحظة الثانية، قد تبدو عصية على الفهم للوهلة الأولى، بيد أن أسبابها وتجلياتها لا تخطئها العين. فتيارات شيعية عدة، بعضها يملك رصيداً قوياً ضمن جنود الوفاق، وبعضها كرسيه محجوز لو اختار التنافس على مقعد إداري، كلهم يتفهمون البحارنة، بل ويدفعونه إلى الانشقاق، اليوم قبل الغد، وتأسيس جمعية بديلة، وليس فقط تنافس «الوفاق».
هذه القوى تمتد من أقصى اليسار، إذ الإسلاميون ذوو النوازع الليبرالية، مروراً بالشخصيات الساخطة على قرار المقاطعة، وصولاً إلى اتجاه عبدالوهاب حسين.
ويمكن ملاحظة أن حسين مقاطع، بل هو أحد أبرز منظري المقاطعة، وهو رأي «الوفاق» الرسمي، لكنه لا يلبث يجدد انتقاداه لإدارتها، التي ربما تبنت فكرته وهي غير مقتنعة بها، وربما لم تنفذها كما كان يأمل. وكثيراً ما يردد أتباع حسين أن رئيس «الوفاق» الشيخ علي سلمان، الذي كان يرجح المشاركة في البرلمان، وربما لايزال، يقود المقاطعة بنفس مشارك.
في العموم، يجمع مشجعو البحارنة (أو متفهمو دوافعه) سخطهم على مجلس الإدارة واختياراته السياسية وطبيعة تسييره للأمور، وتعاطيه مع الرأي/ الآراء الأخرى. وخصوصا بعد تضاؤل احتمالات التغيير من الداخل، بعد أن جُدد لتشكيلة إدارية تنهي دورتها بعد أقل من عام ونصف، وهي لا تختلف عن التشكيلة الإدارية السابقة المتأرجحة بين المقاطعة والمشاركة، وإن رجح المشاركون عددياً، ذلك أن الغلبة العددية لا تعني سيادتهم للقرار.
مع الإشارة إلى أن الإدارة الجديدة انتخبت بأصوات لا تتعدى الثلث من أعضاء «الوفاق»، (شارك في انتخاب إدارة الوفاق التي جرت في يناير/ كانون الثاني الماضي نحو 600 عضو من أصل 2400 تقريبا يحق لهم التصويت. وربما عد ذلك دليلاً موثقاً على أن غير الراضين عن أداء الوفاق كُثر، لكن هذا لا يعني تأييدهم بالضرورة تأسيسات جديدة، ولا توجد استطلاعات للرأي ترجح هذا الخيار أم ذاك، وما يردده كل طرف غير مبني إلا على انطباعات، وهو ما تجدر بالحركة السياسية التنبه إليه، في شتى الموضوعات، بما في ذلك الأولويات والخيارات السياسية.
إذاً، يمكن ان نطلق على قسم كبير من مشجعي البحارنة تعبير «الناقمون على الوفاق». كثير من هؤلاء لا ينوي ركوب قطار البحارنةً، بيد أنهم يدفعونه قدماً، لأسباب تتعلق بالتنافس التقليدي داخل أجنحة التيار الشيعي، وبهدف قياس رد الفعل الشعبي ازاء التحرك، ليكون البحارنة والسائرون معه أول من يتلقى صدمة كسر ما يعتبره البعض محرماً.
يمكن أن يضاف إلى مشجعي البحارنة، الحكومة التي ستهلل فرحاً من جراء ما يحدث، ويمكن ان تقدم بعض التسهيلات فيما يخص الإشهار الذي يمكن أن يتحصل عليه بمجرد مكالمة هاتفية. وذلك لا يعد نقصية بالضرورة، إذا أديرت اللعبة آخذة بالحسبان حساسية الرأي العام. إذ يجدر بالمعنيين، وخصوصا الحكومة، الحذر والنأي بنفسها عن ممارسة دعم معلن، كيلا تضر مشروع التأسيس الجديد، ذلك أن أي تدخل رسمي يمكن أن تكون نتائج عكسية. كما يجدر بمشجعي البحارنة عموماً، أن يدركوا أن تأييدهم غير المدروس قد يكون نقمة.
إلى ذلك، فإن أحد أهم الانتقادات الموجهة إلى البحارنة تتعلق بالتوقيت، إذ يخوض المقاطعون حوارات يعتبرونها «حاسمة» مع السلطة، ودخول البحارنة على الخط قد يرسل إلى الحكومة رسالة قد تفهم منها أن لا داعي لتقديم تنازلات مادامت بعض القطاعات الشيعية المحسوبة على «الوفاق» ستشارك في انتخابات 2006.
هذا التحليل صحيح في جوهره، إذ لا تتعامل الحكومة بالعواطف، كما يتعاطى بعض خصومها، وهي ستقدم - مضطرة - الأقل دائماً، أو ما يكفي لتسير مشروعها السياسي، وستؤجل الخطوات الأخرى إلى استحقاقات مقبلة. وهنا يجب «التيقن» بأن «ينبوعها» لا ينضب، وأية تعديلات دستورية أو غيرها ستجعل السلطات ممسكة بناصية القرار السياسي والاقتصادي، أما الربح السياسي في الداخل والخارج، فهو متحصل (على البيعة)، كما يقولون.
لكن لا يجب أن ننسى هنا أنه يمكن التشكيك في أصل فرضية الحوار. إذ باستثناء تمسك «المعتدلون» داخل الجمعيات الأربع بحبل الحوار المتدلي من بناية عالية لا يعرف من يمسك به أو إن كان أحد يمسكه أصلاً، فإن التيار المتشدد داخل المعارضة أقل إيماناً بجدوى هكذا الحوارات، أما الحكومة فنفضت يدها سريعاً ما يأمل المقاطعون بلوغه، ولا يوجد أبلغ من تصريحات العلوي، التي أدلى بها علناً وليس من وراء حجب، وكأن الحكومة تقول لمن يهمه الأمر: «لقد أوضحت موقفي، لا تقولون فيما بعد أنني أخلفت الوعود والمواثيق».
هذا لا يعني أن تصريحات البحارنة أو ما يقال عن عزمه المشاركة في الانتخابات المقبلة، من دون أن يضع حداً أدنى من «الشروط»، في محلها. إذ يمكن للبحارنة والذين معه أن يستفيدوا ما أمكنهم قبل دخول اللعبة، علماً بأن وصولهم إلى البرلمان غير مضمون. وربما عليهم أن «يفاوضوا» الحكومة، و«يأملوا» منها بأن تحقق لهم 4 أمور على الأقل:
- تحريك ملف البطالة عبر التوظيف في المؤسسات العسكرية وغير العسكرية بوتيرة أسرع وأوضح.
- أن تعيد الحكومة النظر في الدوائر الانتخابية، بما يحقق قدرا أكبر من التمثيل للمواطنين. (وليس بالضرورة المساواة الكاملة!).
- أن توافق الحكومة على إنشاء الأحزاب، وهذا لن يكلفها كثيراً في ظل النشاط الحالي للجمعيات السياسية المعلنة.
- أن تعِد الحكومة بإجراء، أو بدعم إجراء تعديلات دستورية «تقدمية» من خلال البرلمان المكون على أساس دستور 2002، سواء في دورته الحالية أو في دورته المقبلة. ويمكن للحكومة المبادرة بتقديم تصور للتعديلات، أو ألا تعارض إجراءها، وهو أضعف الإيمان.
وإذا تمكن البحارنة من كسب ذلك، فإنه قطع شوطاً لا بأس به، يمكنه أن يرسل من خلاله إشارات إلى الرأي العام، بأن مشروعه مدرك عمق المشكل السياسي في البلد. فما يأخذ على النشاط الحالي للبحارنة تركيزه على المشاركة في الانتخابات المقبلة، مع أن المشاركة من دون رؤى وبرامج وإدراك بتناقضات الحال السياسية، لا يختلف عن المقاطعة الوفاقية، فغياب برنامج «الوفاق» جعلها تخسر في المشاركة والمقاطعة، إذ فشلت حين شاركت في الانتخابات البلدية، وفشلت حين قاطعت الانتخابات البرلمانية.
في جانب آخر، لا يعرف إن كان البحارنة تنبه إلى أهمية استقطاب عناصر غير تلك المنضوية تحت لواء «الوفاق»، إذ يلاحظ أنه اجتهد في استقطاب مؤسسي «الوفاق»، على رغم لديه فرص واسعة لمخاطبة القطاعات التي تجاهلتها الجمعية التي استقال من مجلس إدارتها، وإذا لم يفعل فإنه يعيد إنتاج الأخطاء التي مرت بها «الوفاق»، بما في ذلك الواحدية في المذهب. مع الإشارة إلى أن التيار الشيعي مليء بالكوادر، على رغم الظرف الأمني في العقدين الأخيرين أثر سلباً عليه، وأصبح في المؤخرة لجهة قدراته المالية، وامكاناته التعليمية، بيد أن قوته العددية يمكن أن تكون مكسباً، بدل أن تكون عالة.
بغض النظر عن نجاح البحارنة في مسعاه، فإن حديثه عن تأسيس جمعية جديدة، يجب أن تنبه «الوفاق» إلى أنها لن تستمر إلى الأبد في احتكار القرار السياسي، وأن عليها أن تستعد لوجود منافسين داخل خيمتها، وذلك يفرض «الإصلاح» الداخلي، لكنه يفرض أيضاً رحابة الصدر والبعد عن العصبية في قراءة المشهد.
ويمكن الإشارة هنا إلى أنه كان كان أمام «الوفاق» متسع من الوقت للتنبه إلى أن وجود التملل داخل نخبتها من جراء سياسة «عمك أصمخ»، لكنها لم تفعل، وهذا ما سرع من الحديث عن تأسيسات جديدة
العدد 723 - السبت 28 أغسطس 2004م الموافق 12 رجب 1425هـ