المتتبع لحوادث العراق منذ أن وطأت أقدام المحتل الأميركي أرض العراق الجريح، يلاحظ أن واحداً من أهم الأسباب الرئيسية لحال الفتن والأزمات التي يشهدها العراق هي طريقة الأميركان في معالجة تطورات الوضع العراقي، فقد اعتمدوا على طريقة واحدة هي الحل العسكري. أما الحلول الأخرى فليست لها الأولوية. فالإدارة الأميركية التي بلغت قمة التطرف اليميني، ومعظم رجالاتها متأثرون بالصهيونية المسيحية التي هي أشد من الحركة الصهيونية في غلوها وكراهيتها للعرب والمسلمين، هذه الإدارة تفكر بعقلية الحسم السريع لكل ما تريده، ولأن الحل العسكري يحقق لها ذلك، فإنها افتعلت الحرب على العراق لأسباب غير منطقية مخالفة بذلك الأمم المتحدة والعالم أجمع، «استكباراً في الأرض ومكر السيئ»، كما في القرآن الكريم. فأميركا إنما احتلت العراق أساساً لبسط هيمنتها العسكرية في هذه المنطقة المهمة، ولتحقيق مآربها ومصالحها الاقتصادية والسياسية، وضمان أمن صنيعتها «الكيان الصهيوني».
ثم بعد احتلالها للعراق، كان يفترض منطقياً أنها بما تملك من خبرات في الاحتلال، وما تعرفه من كراهية الشعوب لها ان تتحرك بشكل سلمي وتتحاور سياسياً مع أصحاب الثقل السياسي في العراق، وفي مقدمتهم مراجع الدين الشيعة وكبار علماء الدين السنة، والتيار الصدري، وزعماء العشائر، وغيرهم من الشخصيات ذات التأثير الشعبي. إلا أنها آثرت التعامل مع عدد محدود من التيارات السياسية التي سبق أن تعاملت معها في واشنطن ولندن. وهذه التيارات بغض النظر عما تملك من قوة عسكرية وسياسية بفعل ما تحصل عليه من دعم أميركي وغربي، وبعضها مدعوم من قبل بعض دول الجوار العراقي، فإنها ليست بذلك التأثير الشعبي الحقيقي في خارج دائرة الأكراد.
إهمال استحقاقات ما بعد صدام
كان يفترض أن تتحرك الولايات المتحدة بأموالها، وبالنفط العراقي الذي هيمنت عليه، في حلّ عدد من المعضلات الكبرى في داخل العراق من تخفيف حدة الأزمة المعيشية، وتوفير المياه الصالحة والكهرباء، وعدد من الخدمات الرئيسية كالتعليم والخدمات الطبية المتخلفة. إلا أنها بدلاً من ذلك اهتمت بكيفية تدفق النفط العراقي لتوفيره لمصانعها وشركاتها العملاقة، ولبسط سيطرة الشرطة وأجهزة الأمن التي أنشأتها، وهيمنة الإدارة العراقية التابعة لها على الوضع السياسي في العراق. وهكذا تفاقمت الأزمات، فبعد تحركات بقايا حزب البعث الذين بدأوا بالعمليات العسكرية المضادة لأميركا، دخلت الجماعات السلفية على خط المواجهة لتصفية أزماتها واختناقاتها في البلدان الأخرى. إلاّ أن العسكرتاريا الأميركية هي التي أرغمت عدداً من القوى السياسية على الدخول في مواجهات، بافتعال الأزمات معها، واعتقال شخصيات منها، وهذا ما حدث بالذات مع التيار الصدري، وبعض التيارات الإسلامية السنية منذ بداية تفجر الأزمة معهم. فتنوعت دائرة المواجهات، وتعمقت بفعل إهمال الاستحقاقات الخدماتية من جهة، والهيمنة السياسية لأميركا واتباعها على الشأن السياسي، في حين أنه كان هنالك استحقاق سياسي مهم كان يفترض بالإدارة الأميركية أن تهتم به، ولكنها حاولت مراراً تأخيره لتركيز أتباعها في العراق سياسياً وشعبياً، ذلك الاستحقاق هو الانتخابات الحرة النزيهة والتي دعت إليها المرجعية الدينية منذ اليوم الأول وطالبت بعدم تأخيرها. إلا أن القوى السياسية المرتبطة بأميركا هي التي حاولت تأخير الانتخابات بحجج مختلفة، من ضمنها عدم توفر الأمن والسلامة. في حين أن أميركا تدرك، وأتباعها يدركون جيداً، أن ذلك لن يتحقق في ظل هيمنتها السياسية والعسكرية في داخل العراق. وللأسف فإن الأمم المتحدة خذلت الشعب العراقي، حين استجابت للضغوط الأميركية والإقليمية بتأخير عملية الانتخابات. وكان صوت المرجع الديني السيد السيستاني عالياً بشأن المطالبة بالانتخابات، إلا أن ذلك لم يتم بحجج وأعذار واهية. فماذا حدث؟
يقول المرجع الديني السيد المدرسي في مقابلة مع فضائية «العالم»: «لقد قلنا لهم إن الأمن والاستقرار يتحقق بإجراء الانتخابات، ولكنهم لم يهتموا بذلك فزادت حال الفوضى والمواجهات، ولو أنهم تحاوروا مع القوى صاحبة التأثير الحقيقي في العراق، لحققوا الأمن ولجرت الانتخابات لتقرير مستقبل العراق».
المرجعية ضمير العراق
لقد وقفت المرجعية سداً منيعاً دون حدوث مزيد من التدهور في الوضع العراقي في جميع الأبعاد، فقد رفضت أن يصبح الدستور المؤقت دستوراً دائماً على العراق. وأصر السيد السيستاني وبقية المراجع على أن الجهة الوحيدة المخولة بوضع الدستور هي هيئة عراقية منتخبة انتخاباً حراً ونزيهاً. وطالبت المرجعية بالحوار مع القوى الحقيقية والإسراع في الانتخابات، ووقفت مع وحدة الشعب العراقي بجميع طوائفه وقومياته وأدانت أية تعديات على أية قومية ودين ومذهب. وها هي اليوم تطالب بوقف نزيف الدم في النجف الأشرف، وتدعو القوات المحتلة والقوات التابعة للحكومة العراقية إلى وقف عملياتها الشرسة، وتطالب بالتعامل الحكيم مع الأزمة بعيداً عن العنف المسلح، إلاّ أن أميركا وعملاءها لم يستجيبوا لنداء المرجعية منذ البداية. وللحق أنه لولا حكمة المرجعية، ومطالباتها الدائمة بضبط النفس أمام المجازر المتعمدة الكثيرة التي وقعت مراراً لأبناء الطائفة الشيعية لحدثت مواجهات طائفية كان يُخطط لها لجرّ العراق إلى حرب أهلية لا تُبقي ولا تذر، تكراراً لما حدث في لبنان في السبعينات. وفي نظري أن السبب الحقيقي لمقتل السيدمحمد باقر الحكيم رحمه الله هو لإسكات واحدٍ من أهم رجالات المرجعية الناهضة في العراق، وهو ما لن يحدث، فالمرجعية الدينية لها رجالاتها وعمقها التاريخي والاجتماعي والسياسي الكبير في العراق، وهي في نظر أكثرية الشعب العراقي بمختلف طوائفه وقومياته الضمير الحي النزيه المعبّر عن تطلعات الشعب العراقي، بعيداً عن المصالح والأطماع التي لوّثت تحركات الكثير من القوى السياسية في داخل العراق
العدد 721 - الخميس 26 أغسطس 2004م الموافق 10 رجب 1425هـ