جاء في كتاب «البخلاء» للجاحظ، أن «سأل خالد بن صفوان رجلٌ، فأعطاه درهما، فاستقله السائل، فقال: يا احمق ان الدرهم عُشر العشرة، وان العشرة عشر المئة، وان المئة عشر الالف، وان الألف عشر العشرة آلاف، اما ترى كيف ارتفع الدرهم الى دية مسلم».
ما ورد اعلاه ينطبق تماما على العالم العربي لجهة التنمية، فقد اورد تقرير التنمية الانسانية للعام 2003 ان عدد سكان العالم العربي 290 مليونا يعيشون في 22 دولة عربية ومنهم 65 مليون بالغ امي، وفي الكتاب الاحصائي الاميركي السنوي يبلغ معدل الانفاق العسكري العربي 93,4 في المئة من مجمل الدخل القومي، ولا يتعدى معدل الانفاق على البحث العلمي الـ 3 في المئة، والانفاق على التعليم اقل من معدل الانفاق العسكري.
وعلى رغم ذلك، فإن اجهزة الاعلام العربية تتحدث دائما عن النهضة التي حققتها الدول العربية، ويكثر هذا الحديث في المناسبات الوطنية عندما تتحول وسائل الاعلام في كل دولة عربية الى ناطقة رسمية باسم الدولة، وتجدها تتحدث عن النهضة العمرانية، وعن تطور الصناعة وعن زيادة عدد الأسرّة في المستشفيات وعن زيادة عدد المدارس وخريجي الجامعات.
وفي تلك المناسبات تغيب اية اشارة الى معدلات البطالة وارتفاع نسبة التضخم وعدد الفقراء وعدد الاميين، وتعتم هذه الاجهزة على معدلات الجريمة والتلوث والهجرة، فالمناسبة وطنية ويجب ان يظهر الوطن بأبهى حلله، ولهذا لا بد من الالتزام بالخطاب الرسمي للدولة.
والالتزام بهذا الخطاب نجده ينسحب على باقي ايام السنة لأن التحديات التي يواجهها الوطن تتطلب التعبئة الكاملة لمواجهتها، ولهذا لا يمنع ان يتحول الشعب إلى سائل، ولا يمنع ان يكون العطاء درهما، وان استقله الشعب استخدمت السلطة الاسلوب ذاته الذي اورده الجاحظ في كتابه، فالمدرسة التي بنيت في احدى القرى العربية هي في الوقت ذاته المدرسة الابتدائية والمتوسطة والثانوية والجامعة، وهي صالة الاحتفالات الرسمية، ومكان الايواء في الكوارث الطبيعية والمستشفى الميداني، وهي اول ما تقفله اجهزة الامن اذا ما نشبت اية ازمة سياسية، اما المناهج الدراسية فهي شبه مقدسة من غير المسموح المس بها، وان طالب بتعديلها او تطويرها ابناء البلاد اعتبروا من المغضوب عليهم ومن الخونة، لكن لا مانع ان تعدل بإملاء من الخارج، لأن كل ما هو فرنجي برنجي كما يقول المثل العامي.
ولأن العرب لا يؤمنون بالتغيير فلا مانع من ان يبقى رئيس الجمهورية في منصبه مدى الحياة وان يورث المنصب لأولاده من بعده، لأن الوطن لم ينجب في تاريخه الا هذا الرجل الذي وحده يصلح لهذا المنصب، ولذلك الامر عينه ينطبق على كل المناصب في الدولة، حتى الشعراء والادباء تشكل ثلة منهم سلطة لا يمكن معارضتها، ويمكن في هذا الشأن الاخذ بما كتبه صالح دياب في تقريره المنشور على موقع القنطرة الالكتروني عن مهرجان لوديف المتوسطي الشعري فقد كتب «التنديد بالمشاركين (اي الشعراء العرب) من قبل بعض الصحافيين والكتاب العرب لا يقع الا على الشعراء الشباب، فيما لا يجرؤ احد على التنديد بمشاركة شعراء لهم حضورهم الشعري والثقافي مثل سعدي يوسف وبسام حجار وقاسم حداد وعباس بيضون».
لا يمكن انتقاد هؤلاء لأنهم جعلوا من انفسهم سلطة ثقافية ليس بانتاجهم وانما بالعلاقات العامة، وبالتالي اصبحوا فوق النقد، تماما كما يكون الزعيم فوق النقد، فإذا ارتكب خطأ فإن الشعب هو المخطئ والدولة تتحمل المسئولية لأن الزعيم لا يخطئ، وبالتالي يصبح كل من هم دونه منزهين عن الخطأ ويبقى الامر يتدحرج نزولا حتى يصل الى اصغر موظف في الدولة، ومن كان منهم يتمتع بغطاء مما هم فوقه فإن الخطأ يقع دائما على الناس، ونتيجة من كل ذلك فإن الحال العربية التي كنا عليها قبل نصف قرن لم تتغير وبالتالي ليس غريبا ان تحتل الدول العربية ادنى السلم العالمي في ما اسماه تقرير التنمية الانسانية في العالم العربي مؤشرات الخواتيم المعرفية، وان تمتلك دولتان عربيتان فقط مفاعلات نووية من اجل الاستخدام السلمي فقط، ولا تدخل الدول العربية نادي الدول المنتجة للاسلحة النووية لأنها بكل بساطة ليست بحاجة إلى هذه الاسلحة لأنها لن تحارب أبداً، واستبعاد فكرة الحرب العربية تقودنا الى سؤال عن الحكمة من تكديس الاسلحة المستوردة من الخارج في الترسانات العربية، فالعرب ومنذ العام 1948 وحتى اليوم لم يفكروا جديا بتحرير فلسطين او في اضعف الايمان رد الجيش الاسرائيلي الى حدود الرابع من يونيو/ حزيران العام 1967، ومنذ العام 1949 وإلى الآن تبحث القيادات العربية في افضل سبل التفاوض مع «اسرائيل» والتي تحفظ لهم في النهاية ضمان عدم تغيير حدود الأرض التي يقفون عليها، وان استردوا، عبر التفاوض، ما احتل من ارضهم التزموا بالشروط القاسية التي تضعها «اسرائيل»، واقل هذه الشروط قساوة، ان تكون المنطقة تلك خالية من التنمية الجدية وليست منزوعة السلاح فقط!
ليس غريبا ان يكون 22 في المئة من العرب لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، وليس غريبا ان يكون اكثر من 24 في المئة من حملة الشهادات العليا يعملون خارج بلادهم، وليس غريبا ان تنحصر التنمية في العواصم العربية ومحيطها الاقرب، وليس غريبا في دولة عربية مثل العراق ان يكون فيها وحتى التاسع من ابريل/ نيسان العام 2003 نحو 645 الف خط هاتفي علما ان عدد السكان يبلغ 26 مليون نسمة، فما ينسحب على العراق في هذا الشأن ينسحب على غالبية الدول العربية، لأن المؤسسة التي كانت تحكم حتى ذلك التاريخ لا تختلف كثيرا عن غالبية المؤسسات العربية، ولا سيما الدول التي رفعت راية التقدمية والنهضوية والثورية لعقود طويلة، وبالتالي لن يكون العربي بحاجة الى التعليم طالما انه يستطيع ان يكون في الموقع الذي يريده، تماما كما حدث قبل عقود في احدى الدول العربية، اذ تقول الحكاية: «ان رجلا محسوبا على زعيم احدى المناطق في تلك الدولة طلب من الزعيم توظيف ابنه في مؤسسة رسمية، وحينذاك كان هذا الوزير يتولى حقيبة التربية والفنون الجميلة فعين ابن المفتاح الانتخابي مدرسا في احدى المدارس الريفية، وبعد اشهر تغيرت الحكومة، وجيء بوزير آخر ليتولى حقيبة التربية، وأراد الوزير الجديد ان يختبر القدرات التعليمية للمعلمين في ملاك الوزارة، وعندما سمع المفتاح الانتخابي بهذا الخبر هرع الى زعيمه مستنجدا، فقال له الزعيم: لا تقلق لقد عينت ابنك عضوا في لجنة اختبار المعلمين».
فكم من ابن مفتاح انتخابي او ما شابه يتولى منصباً مهماً في دولنا العربية، ولا مؤهلات عنده الا انه ابن فلان، وابن فلان هذا لا يهمه كثيرا امر التطور لأن في ذلك تهديداً لمصلحته الشخصية ولأن هذه المصلحة مقدسة نجده يحارب كل من يحاول التطوير ويبخل في الانفاق على البحث العلمي والتعليم والتطوير الصناعي وخفض معدلات البطالة لأنه في حال كان سخياً بالانفاق على كل ذلك سيرسب في اختبار لجنة القدرات ولهذا هو يصور للشعب ان الدرهم يساوي دية مسلم كما جاء في رواية الجاحظ
العدد 714 - الخميس 19 أغسطس 2004م الموافق 03 رجب 1425هـ