رفض قادة القوات المسلحة وجنرالات الجيش التركي الاسبوع الماضي نداء وجهه لهم زعيم «حزب الحركة القومية» اليميني دولت بهجلي ناشدهم فيه تحمل مسئولياتهم التاريخية لحماية النظام العلماني في البلاد، وقد أعاد الجنرالات الرسالة التي بعث بها بهجلي اليه من دون التعليق أو الرد عليها، ما اعتبرته الاوساط التركية موقفا واضحا من قيادات الجيش بعدم الرغبة في التدخل بالشئون السياسية.
وكان بهجلي وجه رسالته الى قادة القوات المسلحة وعدد كبير من جنرالات الجيش والمسئولين في مختلف أجهزة الدولة وفي مقدمتها القضاء والجامعات دعاهم فيها للعمل المشترك والتصدي لسياسات حكومة اردوغان التي تستهدف ما وصفه بـ «النظام الديمقراطي العلماني القائم في البلاد».
ويعكس موقف الجيش من رسالة بهجلي جانباً من التحولات المحيطة بدور الجيش في تركيا، وهو القوة التي طالما وصفت بانها «حامية النظام العلماني الديمقراطي» الذي اقامه اتاتورك في تركيا بعد الحرب العالمية الاولى، وتقف وراء هذا التحول مجموعة عوامل سياسية داخلية وخارجية، ابرزها الدمار الذي اصاب الطبقة السياسية التقليدية في تركيا والتي كانت الواجهة العلنية لتدخلات الجيش في السياسة التركية بعد ان قرر الاخير البقاء في الظل منذ مطلع الثمانينات، وهو الذي قاد اربعة انقلابات عسكرية بين بداية الستينات والثمانينينات، وبفعل دمار الطبقة السياسية التقليدية المعروفة باتجاهاتها «العلمانية الاتاتوركية»، وصعود الاتجاهات الاسلامية الاصلاحية، وضع الجيش امام خيار التقدم لتسلم السلطة مباشرة، او التفاهم مع الاسلاميين الذين ابدوا مرونة عالية في التعاطي مع الاتاتوركية، من دون الدخول مع الجيش في حالات من الصراع المكشوف.
وعزز فرص التفاهم بين الجيش والاسلاميين الاصلاحيين، كما جسدهم حزب العدالة والتنمية، تراجع الدور الامني للجيش التركي في الداخل التركي بعد تراجع نشاط حزب العمال الكردستاني في شرق الاناضول واعتقال زعيمه عبد الله اوجلان في العام 1998، وتوجه الاكراد الاتراك الى نضال سلمي ديمقراطي في اطار الدولة التركية، وهو ما ترافق في السنوات الاخيرة مع انحسار لدور الجيش التركي في المستوى الاقليمي نتيجة السياسات السلمية والتسويات السياسية، التي اتبعتها الدولة التركية مع جيرانها.
وارتبطت العوامل الداخلية بأخرى خارجية، كان الابرز فيها توجه تركيا نحو اقامة علاقات سياسية اساسها الاقتصاد وتسوية المشكلات بالطرق السلمية مع دول الجوار على نحو ما حدث في العلاقات مع اليونان وايران وسورية، ما خفف دور الجيش التركي في السياسة الخارجية، ودفع بالجيش لاتخاذ موقف أكثر انسجاما مع سياسة حكومة حزب العدالة والتنمية في الموقف من الحرب على العراق في العام 2003، على رغم كل ما يقال عن علاقة الجيش التركي بالولايات المتحدة.
وثمة عامل آخر بين عوامل، دفعت الى تراجع تدخل الجيش في الشئون السياسية، وهو موضوع دخول تركيا الى الاتحاد الاوربي، وهي نقطة توافق تركي عامة يؤيديها الجيش بقوة، ويرتبط تحقيق ذلك بطلب اوروبي لتحقيق اصلاحات بينها تقيد تدخل الجيش في الحياة السياسية.
لقد ادت هذه العوامل وغيرها الى تراجع دور الجيش في الحياة السياسية، وكان بين تجليات هذا التراجع اجراء تعديلات ادارية ودستورية وقانونية، من بينها زيادة عدد المدنيين في مجلس الأمن القومي إلى تسع اشخاص مقابل خمسة من العسكريين، واختيار مدني أميناً عاماً للمجلس لأول مرة منذ تأسيسه العام 1938، وتكليف الأمين العام اعداد برنامج اجتماعات المجلس كل شهرين مرة بدلاً من كل شهر مرة بالتنسيق المباشر مع رئيس الوزراء، وليس مع رئيس الأركان كما كان في السابق.
وكان بين التعديلات التي اصابت موقع الجيش ومكانته في الحياة السياسية اخضاع موازنة الجيش وتعديلاتها لرقابة ومحاسبة القضاء والبرلمان، ما يعني ضبط إنفاق المؤسسة العسكرية التي تعوّدت في الماضي الإنفاق من دون الرجوع إلى الحكومة وخصوصاً خلال سنوات الحرب ضد حزب العمال الكردستاني والتنظيمات الإرهابية اليسارية أو اليمينية التي كانت حجّة الجيش في التدخل والقيام بانقلاباته العسكرية.
غير ان هذه الاجراءات، كان من الصعب ان تتم لولا صعود اتجاهات داخل المؤسسة العسكرية، تبنت التوجه الى دور اقل للجيش من التدخلات في الحياة السياسية، وتعزيز دور الجيش ليكون قوة عسكرية فحسب، وقد جرى في هذا السياق تعيين الفريق أول حلمي أوزكوك قبل عامين بمنصب رئاسة الأركان، وهو بين المؤيدين لفكرة بقاء الجيش خارج اللعبة السياسية، ما ترك اثره في مواقف جنرالات الجيش المعروف عنهم تشدّدهم في موضوع العلمانية الاتاتوركية، وكان من ثمار هذا التوجه سلسلة مناقلات وتعيينات وترقيات اتخذها مجلس الشورى العسكري الاسبوع الماضي منها ترقية 77 جنرالاً من الشخصيات المعروف عنها رفضها لأي تدخل للجيش في السياسة.
خلاصة القول، ان تركيا تتجه اليوم وسط ظروف سياسية واقتصادية داخلية وخارجية نحو تخفيف تدخل الجيش في الحياة السياسية، لكن عملية كبيرة كهذه لابد ان تترافق مع حساسيات هنا وهناك، وتصادم بين الحكومة والمؤسسة العسكرية، من دون ان يؤثر ذلك على واقع التحول التاريخي الحاصل
العدد 713 - الأربعاء 18 أغسطس 2004م الموافق 02 رجب 1425هـ