بالعودة إلى كتاب «هوبرة إمبريالية» الذي صدر الشهر الماضي ولخصته صحيفة «الحياة» في حلقتين (8 و9 أغسطس/ آب) نجد ان الكاتب «المجهول» ينطلق في تحليله لعصاب الإدارة الاميركية الحالية من نظرية المؤرخ الأميركي بيري ميلر التي تقول «ان الأفكار تصنع التاريخ». فالأفكار برأي هذا المؤرخ هي «عصب محوري لتصرفات البشر». والمرض العصابي الذي اصاب الإدارة هو نتاج تلك الأفكار المغلقة التي أحاطت بها «النخبة الحاكمة» نفسها وأخذت منها ترى العالم المحيط بها. فالكاتب المجهول يرى ان أساس الاضطراب السياسي - النفسي يعود إلى نزعة الغطرسة (الهوبرة) الامبريالية، والانغلاق على الذات، والغرور، وعدم معرفة شعوب العالم. فالعلة برأيه هي في التفكير وأسلوب التفكير. ومشكلة «النخبة الحاكمة» أنها ترى العالم من زاوية أميركية. وحين «تؤمرك» النخبة العالم تبدأ الاخطاء، لانها تفترض ان العالم مثلها بينما هو ليس كذلك. ويرى الكاتب (المجهول) أن كلام النخبة عن «أمركة» العالم احمق؛ لأنه بكل بساطة يقلب التاريخ والحقائق ويظن ان القوة العسكرية تستطيع وحدها ان تحول المسلمين إلى علمانيين.
يتهم «المجهول» النخب الحاكمة في أميركا بالجهل وعدم معرفة التاريخ والقصور في فهم العالم والاستخفاف بآراء وتحليلات الآخرين. وبرأيه (وهو صحيح) ان الديمقراطية ليست بضاعة يمكن تعليبها، فهذه سذاجة تقود الغرور الامبراطوري وهي في النهاية تعكس «ذهنية» نخبة من السياسيين والأكاديميين والإعلاميين والجنرالات.
انطلاقاً من هذا النقد الايديولوجي لأفكار النخبة الأميركية الحاكمة يخرج الكاتب بقاعدة بسيطة لقراءة ما يسميه الفشل الامبريالي وتقول «ان غالبية العالم خارج أميركا الشمالية لا تشابهنا». ويستنتج قاعدة مضادة وهي أيضاً بسيطة في مدلولاتها تقول «علينا فهم العالم كما هو، وليس كما يريدون له ان يكون». فالتمنيات برأيه لا تصنع الواقع. فالكاتب يسخر من اعتقاد النخبة بإمكان بناء ديمقراطية في امكنة لا أساس فيها لمثل هذا الاعتقاد.
حتى الآن كلام «المجهول» في نقد تصورات «النخبة» الايديولوجية يصب في الإطار الصحيح. ولكنه أساساً يعاني من خلل موضعي. فهو من جهة ينطلق من نظرية تقول إن الأفكار تصنع التاريخ ثم يعمد من جهة أخرى إلى التشكيك (أو إلغاء) صحة هذه النظرية. فاذا كانت النظرية صحيحة فلابد أن تكون بعض تلك الأفكار صحيحة وإذا كانت الأفكار خاطئة فلابد أن تكون بعض جوانب تلك النظرية غير صحيحة.
الكاتب يتوقف هنا ولا يطور النقاش النظري مع أفكار تلك النخبة، بل يتجه في كتابه إلى مسار آخر وهو تفكيك نظرية «الهوبرة»، وفضح الادعاءات التي رُسمت بشأن تلك الانتصارات الوهمية وتظاهرت واشنطن بأنها حققتها في حربها على الإرهاب.
تجميد النقاش النظري شكل ثغرة في الكتاب لأن الكاتب كان يجب أن يطور السجال بحثاً عن أسباب أخرى تسهم في صنع أفكار النخبة. فالمجهول لم يتطرق إلى الصناعات الحربية التي باتت تسيطر على الاقتصاد الأميركي (عسكرة الاقتصاد) ولم يتحدث كثيراً عن شركات الطاقة والصراع الدولي للسيطرة على منابع النفط وكذلك لم يتحدث عن اللوبيات (المافيات) التي تقرر السياسة الخارجية والداخلية من خلال الكونغرس. فهذه الأمور ليست فكرية وانها تدل على وجود نمو قوة داخلية تحتكر صنع السياسة من خلال صناعة الأفكار التي تبرر الحروب تلبية لحاجات السوق والإنتاج وهي كلها باتت الآن تخضع لرغبات التصنيع الحربي وإنتاج الطاقة.
المسألة إذاً ليست فكرية فقط وانما هي نتاج تزاوج الأفكار المنغلقة (المستبدة) بالاحتكارات العسكرية والنفطية ورفع موازنة الدفاع إلى الأعلى لسد حاجات «الغرور الامبراطوري» الذي لا سبيل امامه للتقدم الداخلي سوى التوسع الخارجي ونهب ثروات الشعوب وإعادة توظيفها أو استثمارها في القطاع الحربي (عسكرة الاقتصاد)... فالكاتب المجهول قرأ المسألة مقلوبة فوضع الأفكار قاعدة انطلاق الحروب معتبراً المصالح مجرد ملاحق لتصورات النخبة الذهنية، بينما العكس هو الصحيح. فأفكار تلك النخبة المنغلقة على ذاتها والمغرورة والمتعجرفة هي نتاج تحولات اقتصادية أميركية جعلت من اقتصاد القوة (العسكرية) الرافعة التي تعتمد عليها الدولة لحماية مستقبل الولايات المتحدة من الانهيار.
القراءة المقلوبة (المعكوسة) جعلت الكاتب يرى أن الكلام عن انتصارات أميركا في معركتها ليس صحيحاً (هوبرة امبريالية) وهي في النهاية استنتاجات وهمية. وبعد ذلك ينتقل من النظرية (الفكرة) إلى السياسة (الوقائع) ويبدأ بطرح ملاحظاته ويقدم اقتراحاته. وهنا يكشف الكاتب «المجهول» عن قناعه الحقيقي... وهو وجه مخيف لأنه يكتفي بالنقد ولا يراجع تلك السياسة. وهذا موضوع آخر للنقاش
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 711 - الإثنين 16 أغسطس 2004م الموافق 29 جمادى الآخرة 1425هـ