خلال العقود الثلاثة الماضية، تنقل انتماء الإسلاميين من حزب (النظام الوطني) إلى حزب (السلامة الوطني) إلى (حزب الرفاه) إلى حزب (الفضيلة) إلى حزب (العدالة والتنمية)... وهذا الأخير تحدث في خطابه عن إنعاش الاقتصاد وإصلاح التعليم ورفع معدلات النمو، ومكافحة البطالة، ومحاربة الفساد وغيرها من الشعارات التي تهم المجتمع والدولة.
هذه التحولات التي حدثت لدى التيار الإسلامي لم تكن وليدة الحاضر، وإنما جاءت بعد مخاض طويل من الصراع السياسي بين العلمانيين بمساندة الجيش، والنخبة الإسلامية في تركيا، التي رأت أن الطريق الأفضل لكي يفسح لها المجال بأن تلعب دورا سياسيا، وأن تمارس حقها في إدارة شئون البلاد هو الابتعاد عن التطرف، وتغليب مصلحة البلاد على المصالح الشخصية، وبالتالي استطاعت أن تكسب ثقة المواطن التركي، والقوى السياسية كافة. كذلك كانت نتيجة تقييم حقيقي للتجارب السابقة، وتعبيرا حقيقيا عن تحولات فكرية وسياسية لدى النخبة.
فتركيا منذ الستينات عانت من مظاهر عدم الاستقرار، بسبب الضرائب الباهظة والتضخم والاضطرابات فبدأت الحركات التركية القيام بأعمال مثل تفجير القنابل والاختطاف والاغتيال، في محاولة للإطاحة بالحكومة، ونشأت في السبعينات خلافات شديدة بين العلمانيين والجماعات الدينية ووقعت معظم مظاهر الاقتتال بينهما واستمرت اعمال العنف، ونتيجة لذلك تغيرت الحكومة في تركيا مرات كثيرة خلال فترة السبعينات، وفي العام 1971 استقال رئيس الوزراء ديميريل من منصبه تحت ضغط الجيش. أخفق جميع الذين تعاقبوا على منصب رئيس الوزراء في تشكيل حكومة مستقرة. وجاء ديميرل رئيسا للوزراء في العام 1975، وفي أواخر السبعينات تنقل منصب رئيس الوزراء مرات عدة بين كل من ديميريل وبولنت أجاويد الذي ينتمي إلى حزب الشعب الجمهوري. وفي نوفمبر/ تشرين الثاني العام 1979 أصبح ديميرل رئيسا للوزراء. وفي العام 1980 استولى الجيش على السلطة. وتم انتهاج دستور جديد للبلاد في العام 1982، وأصبح الجنرال كنعان ايفرين رئيسا للبلاد، وفي العام 1983 عاد الحكم المدني، إثر الانتخابات البرلمانية، إذ أصبح تورغوت أوزال رئيسا للبلاد، وهو ينتمي إلى يمين الوسط في حزب الوطن، ثم فاز أوزال والحزب الذي ينتمي إليه بالانتخابات العامة للمرة الثانية في العام 1978.
وفي العام 1989 أصبح أوزال رئيسا للبلاد. وبعد وفاته انتخب ديميريل واختيرت تشيللر رئيسة للوزراء. ونظرا إلى حال اللااستقرار السياسي والاقتصادي، وتخبط القوى السياسية في إدارة البلاد، وسيطرة الجيش على القرار السياسي، برز نجم حزب الرفاه الإسلامي، وفاز زعيمه نجم الدين أربكان برئاسة الوزراء مما أثار حفيظة العسكر، الذين لم يتركوه. وبالفعل تمكنوا من حل الحكومة المنتخبة، ووضع أربكان في السجن، وحل حزبه واتهامه بمعاداة العلمانية، ومؤسسات المجتمع المدني، وبالتالي سيحول البلاد إلى دولة شبيهة بإيران، بوصفها جمهورية إسلامية، وهذا ما لا ترغب القوى العلمانية في أن تراه يحدث في تركيا، حتى ولو عمل استفتاء وصوتت عليه الغالبية. ولم يكمل أربكان فترة استحقاقه في الحكم، وفي غضون سنتين تم حل الحكومة ونزل الجيش إلى الشوارع، متحديا الإرادة الشعبية، إلا أن حكمة قادة حزب الرفاه، وعدم تصعيدهم للوضع، والدخول في دوامة العنف مما يدخل البلاد في نفق مظلم، مثلما حصل في الجزائر وغيرها من الدول، التي غلبت العنف على الحل السلمي... أدى في نهاية الأمر إلى استقرار الأوضاع السياسية.
فالمرونة والحكمة السياسية التي أبداها حزب الرفاه في التعامل مع الجيش وعدم الصدام معه، جعلت المراقبين السياسيين ينظرون إلى الحزب وزعيمه بإجلال وتقدير، لما في ذلك من تحدٍّ للحزب ولقيادته. هذا على رغم أن حزب الرفاه ورئيسه المنتخب لم يأتِ إلى السلطة عبر التعيين أو الجيش، بل عبر الانتخاب الشعبي، الذي صوتت له الجماهير التركية كافة، وفاز بالغالبية. وفي ظل هذه الظروف قدم أربكان استقالته، وتنازل في سبيل حماية البلاد من الدخول في مستنقع العنف. وحل البرلمان، وأجريت انتخابات أخرى، دخلت فيها الأحزاب كافة ماعدا حزب الرفاه الذي حظر من ممارسة أي عمل سياسي، وإبقاء رئيسه تحت الإقامة الجبرية. ومع المحاولات التي بدرت من حزب الرفاه بتغيير الاسم إلى (حزب الفضيلة) فإن ذلك لم يمكن نجم الدين أربكان ورفاقه من الاستمرار في العمل السياسي تحت مظلة الحزب، في الوقت الذي تم فيه تشكيل حكومة ائتلافية من حزب الوطن الأم والشعب، والتي لم تستمر إلا لفترة بسيطة.
وفي ظل متغيرات كثيرة شهدتها الساحة العالمية، وامتعاض الأوروبيين من تدخل الجيش التركي خطت الحكومة التركية خطوات شبه إصلاحية لكسب التأييد الأوروبي والرضوخ للشروط التي فرضها الاتحاد الأوروبي على الدول التي تريد الانضمام إليه، وهذا ما يراهن عليه الآن مع فوز حزب العدالة والتنمية، الذي حقق فوزا كاسحا بحصوله على أكثر من 34 % من الأصوات، عندما صوّت أكثر من 41 مليون ناخب.
فهل سيقف الجيش أمام الإرادة الشعبية، والضغوط الخارجية بحل الحزب، وعدم ترك الفرصة أمام حزب العدالة والتنمية لإثبات قدرته على إدارة البلاد وإخراجها من حال اللااستقرار سياسيا واقتصاديا؟!
فحزب العدالة والتنمية الذي تأسس على أنقاض حزب محظور ينفي أن تكون له أيديولوجية دينية، محاولا طمأنة القوى السياسية والجيش وأميركا والاتحاد الأوروبي، وهذا ما أكده زعيم الحزب رجب أردوغان، عندما استبعد شخصيا أي علاقة لحزبه مع قادة الثورة الإسلامية في إيران، أو أي من التنظيمات المختلفة المعتبرة (إرهابية)، ويؤكد في الوقت نفسه «أننا نريد إحياء أفضل ما في التراث العثماني، فحينها كان الإسلام باني الحضارات، لا مصدرا للهدم»، وقد سبق لأردوغان أن أدان هجمات سبتمبر على الولايات المتحدة، واعتبرها «أعمالا إجرامية لا مبرر لها».
إن ما تحتاج إليه تركيا هو فترة من الاستقرار السياسي يمكن خلالها الدفع بالكثير من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتأخرة وتطبيقها. فهل يتعظ الجيش ويعطي المجال لمؤسسات المجتمع المدني بالتطور والنمو وممارسة الحوار السياسي، أم ينتظر الفرصة لينقض على فريسته، لإجهاض هذه الديمقراطية والانتخابات التي اعتبرت انتصارا للشعب التركي ككل؟
لقد أثبت الأتراك نضج تجربتهم الديمقراطية، وحرصهم على تكريس التنوع الثري للحياة السياسية، وهذا كله يعتبر رصيدا مهما لإخراج البلاد من أزماتها
العدد 69 - الأربعاء 13 نوفمبر 2002م الموافق 08 رمضان 1423هـ