يقرأون «الممحيّ» ولا ندري، ويفسرون العبارات بطريقتهم الخاصة - و«اللهم لا اعتراض» - فهذا من حقهم ولا أحد مسئول عن تفكير الآخرين. والشجاعة قول الرأي بصراحة ومن دون استنكاف من العلمانية ولا من التدين: فهناك مَنْ مع «الإسلام هو الحل» أو مع «العلمانية هي الحل!». لا يهم إذا كان الفريقان واضحين مسالمين في طرحهما؛ ولكن بشرط أن يفصح كل واحد منهما عن هويته وصفته التي يتحدث بها، من دون عنف وإرهاب وإلغاء للآخر، أو شعارات «رنّانة طنانة» تبدو للعامة صالحة لكل زمان ومكان، في حين لا يوجد شيء في العالم يصلح لكل زمان ومكان، وإن وجد فالاختلاف عليه قائم لا محالة وان كان تحت مسمى «التعددية الفكرية»، وهذه الأخيرة لا يستطيع أحد إلغاءها من سلوكيات البشر، لا بالقوة ولا بغيرها.
هناك «ريش وقش وشمعة»، وأشياء أخرى كثيرة من بينها المال بوفرته أو بشحّه، فالرابط بين القش والريش والشمعة هو التفكير في الاستخدام النافع من الضار؛ وقبل الحديث عن الموضوع الذي سيجري الحديث عنه، لكم حكايتان واحدة إثيوبية، وأخرى لا أعرف مصدرها، غير أن الحكايتين تضيفان ربطا جديدا في أذهاننا للتفكير.
تحكي الحكاية الإثيوبية أن رجلا طاعنا في السن اجتمع بأولاده الثلاثة، وكشف لهم سره قائلا: يا أبنائي، إني لا أملك ما يكفي للقسمة عليكم فسأعطي الذي أملكه لمن يأتي بما يملأ الغرفة.
أعطى كل واحد منهم قرشا، فجاء الأول بكمية كبيرة من الريش ولم تمتلئ الغرفة، وأتى الثاني بكمية من القش وفشل في ملأ الغرفة أيضا، أما الثالث فأحضر شمعة صغيرة وأشعلها فملأت الغرفة بالنور وتجاوز هذا النور حدود الغرفة إلى البيت كله (...).
أما الحكاية الثانية فتحكي عن عالم فيزياء جمع طلابه وأحضر معه بيضة مسلوقة، وقال لطلبته: منْ يستطيع منكم أن يوقف البيضة على رأسها دون أن تسقط؟!
استخدم الطلاب مهاراتهم المتعددة وخفة اليد، وقوة الأعصاب لتثبيت البيضة على رأسها؛ غير أنهم فشلوا في هذه المهمة «الصعبة» واعترفوا بعجزهم، في هذه الأثناء، قام العالم بحركة بسيطة بخفق البيضة من تحت الرأس فأوقفها على رأسها.... صرخ الطلاب: هذه عملية سهلة يا أستاذ!
انتهت الحكايتان، غير أن دلالاتهما لم تنته بعد، وخصوصا أن جل المثقفين العرب مازالوا في موضع تساؤل وأخذ ورد يصل في أقصى صوره إلى حد التخوين والعمالة «للإمبريالية» الأميركية فيما بينهم، في مقابل صورة أخرى نقيضة تبرز فترة البحث عن «منقذ» حد تأليهه وعبادة شخصه باختيار «أصولي سلفي»، بشقيهما «الديني والسياسي» يتصدران المواجهة «مع الإمبريالية» ورفع الصوت والصورة ضد «استهداف الإسلام من الهجمة الصليبية الكافرة» ليخرجنا من الظلمات إلى النور.
الحياة ليست دائما تسير وفق تمنياتنا، ولست سهلة إلى هذا الحد. والمثقفون العرب - ليس كلهم طبعا، بل جلهم - بألوانهم المختلفة وتبايناتهم من مزايدين وثوريين، إلى «مجموعة الأمر بالواقع»، حتى ذلك التيار الذي يعتمد على «قاعدة شعبية» مسلوبة العقول والتفكير وأقصد بذلك الأصوليين، الإرهابيون منهم تحديدا، موضة عصر «عشاق الشهادة»، ومن يستهويهم عنوان التبسيط وتكفير المجتمع برمته من دون اكتراث لقتل الأبرياء عن طريق النحر أو التفجيرات بالسيارات المفخخة والعمليات الانتحارية.... وأخيرا، التيار العقلاني المرتبط بتحديث العقل وإعادة النظر في الخطابات التي تجاوزها الزمن.
وعلى رغم أن هذا التيار الأخير، لا يملك قاعدة شعبية كبيرة في الوطن العربي في المنظور القريب، فإنه قوي باستخدام العقل على المدى البعيد في الصراع الدائر الآن بين القديم والجديد، ومن المفارقة العجيبة أن العقلانيين ستكبر شعبيتهم عندما يتسلم السلفيون السلطة لتنكشف عدم واقعيتهم وواقعية برامجهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، غير أن الثمن المدفوع سيكون غاليا إلى درجة لا تحتمل فشل تجربة عربية أخرى، كما فشلت التجارب «الثورية» المغطاة بالوطنية والديمقراطية والاشتراكية، إذ مازال العقل العربي يعاني من نكساته وعباراته الطنانة منذ هزيمة 67 حتى «دخول قوات الاحتلال المستنقع العراقي الذي لم تخرج منه، كما يقولون إلا بفنائها وتحطيم أميركا» تيمنا بالأغنية العراقية التي كانت تردد أيام الحرب وتؤله صدام: «فوت بيها وعالزلم خليها/ أميركا من الخارطة نمحيها». قليل من التأمل، وقليل من الصبر والتفكر ثم الكثير من المرونة واستخدام العقل، هم الذين سينتصرون دون التخلي لا عن فلسطين ولا عن العراق باسم «الثورية» أو «الواقعية تارة»، وباسم المواجهة الكبرى ضد الكفر والصليبيين تارة أخرى
العدد 687 - الجمعة 23 يوليو 2004م الموافق 05 جمادى الآخرة 1425هـ