أول صحيفة صدرت باللغة الألمانية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة ألمانيا النازية كانت بموافقة من الحاكم العسكري البريطاني في الشطر الألماني الذي احتلته بريطانيا. وكان هدف البريطانيين إنشاء صحافة حرة في ألمانيا تخدم أيضا مصالح الحلفاء الذين تغلبوا على هتلر وحولوا إمبراطوريته إلى ركام. مع ظهور الألمانيتين برزت وسائل الإعلام في الشطر الغربي كونها حرة أكثر من الإعلام المسير الذي كان سائدا في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، ولكن الإعلام الذي يفترض أن يكون حرا يمارس عملياته في الخفاء. فدار نشر أكسيل شبرانغر اعتادت منذ تأسيسها على مناصرة «إسرائيل» وتواصل حتى اليوم التحريض ضد العرب وإن سمحت لكتّاب عرب أو من اصل عربي الكتابة فيها فإنها تختار الذين لا يمتون للصف العربي بصلة منهم بسام طيبي وهو ألماني من أصل سوري يحلو له على الدوام التشكيك بالعرب وله آراء مثيرة جدا للجدل بشأن الإسلام ودور المسلمين في أوروبا. ويمارس الإعلام (الحر) سياسة التلفيق والتلاعب بالمعلومات وهكذا كان دور الإعلام الغربي الحر إبان حرب الخليج الثانية العام 90/1991 حين نشر معلومات ملفقة باستمرار عن مجريات الحرب ثم جدد هذا الدور في حرب الخليج الثانية بعد أن سمح لنفسه بعد هجوم الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول على الولايات المتحدة أن يشوه صورة الإسلام ويشكك على الدوام بالمسلمين وهو بذلك يخدم نظرية العالم اليهودي الأميركي صموئيل هنتنغتون الذي وضع نظرية تتنبأ بصراع الحضارات وكان يقصد من ورائها احتمال قيام نزاع في المستقبل بين الإسلام والغرب المسيحي. من بين ما يمكن وصفه بسياسة إعلامية مركزة كان الحظر الذي فرضته وسائل الإعلام الألمانية على الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات بعد وقت قصير على حوادث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 وحين اتهمه رئيس الوزراء الإسرائيلي ارييل شارون بممارسة ما وصفه شارون بالإرهاب واستغل البلدوزر الحملة الدولية المناهضة للإرهاب بعد هجوم «القاعدة» على الولايات المتحدة وأصبح يستخدم تعبير الإرهابيين كلما تحدث عن الفلسطينيين الذين كان يفترض عليه أن يقبلهم شريكا لـ «إسرائيل» في مفاوضات عملية السلام التي أعلن شارون وفاتها. والملاحظ أن المقاطعة الإعلامية لعرفات تلت مقاطعة سياسية مازالت قائمة. وبعد أن أمر شارون بتدمير الطائرة المروحية التي كانت تقل عرفات في أسفاره وكان مولعا بها كما أمر بتحطيم مقومات الدولة الفلسطينية وحصر الرئيس الفلسطيني في مقر مطوق من قبل دبابات جيش الاحتلال الإسرائيلي غير عابئ بالانتقادات الدولية، طلب رئيس الوزراء الإسرائيلي من الدول الغربية فرض مقاطعة على عرفات تقيدت بها الحكومة الألمانية التي تختلف عن سائر شركاء «إسرائيل» بأنها واصلت تقديم الدعم المالي للسلطة الوطنية الفلسطينية. وكما تقول برلين فإنها تفعل ذلك حرصا منها على عدم انهيار السلطة الفلسطينية واستفحال الأوضاع الأمنية. منذ أيام يتفرج العالم من برلين أيضا على الصراع بين سلطة عرفات ومعارضي نهجه وذلك بعد وقت قصير على عودة طرح قضية سور شارون للنقاش على المستويات الدولية والقانونية وعقب أن اعتبرته محكمة العدل الدولية خطوة مخالفة للقوانين الدولية. يبدو أن بعض الفلسطينيين في الداخل لم يتنبهوا لأهمية الحدث الجديد ومازال لديهم اهتمام أكثر بتصعيد الصراعات الداخلية التي تمنح شارون فرصة كي يبرر عدم وجود مفاوض فلسطيني جدير بالثقة لمواصلة عملية السلام ويعطي البلدوزر بعض الوقت لاستعادة أنفاسه من عبء القضايا الصعبة التي واجهته أخيرا وخصوصا اتهامه بالفساد وكان على وشك أن يتعرض للمحاكمة وخسارة منصبه لو لم يقرر المدعي العام تأييده وسعى لإنقاذه من السقطة السياسية الأخيرة وأعطاه حياة جديدة.
وكانت مجلة «شتيرن» البادئة في رفع الحظر الإعلامي الذي كان مفروضا على الرئيس الفلسطيني ونشرت في الشهر الماضي مقابلة معه. في عطلة نهاية الأسبوع الماضي انضمت صحيفة «فرانكفورتر الجماينه» ورفعت بدورها الحظر الذي فرضته على عرفات بعد أن وصفته وسائل الإعلام الألمانية بأنه عقبة كبيرة أمام تحقق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وهكذا تبنى الإعلام الألماني وجهة نظر شارون الذي لا يختلف كثيرون من السياسيين الألمان بالرأي على أنه العقبة الحقيقية في طريق السلام، ولكنهم لا يجرأون على المجاهرة بذلك علنا خوفا من غضب الإسرائيليين.
عبر صفحات «فرانكفورتر الجماينه» دعا الرئيس الفلسطيني الذي تعرض قراره الأخير بتعيين ابن شقيقه رئيسا على أجهزة الأمن لمعارضة فلسطينية في الداخل لم يسبق لها مثيل، الأوروبيين إلى تعزيز دورهم السياسي والاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط والعمل لهدف حل المشكلة الفلسطينية، مشيرا إلى الغياب الواضح للولايات المتحدة الأميركية المنشغلة بحملة انتخابات الرئاسة الأميركية المقررة في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. وقال عرفات البالغ 74 عاما من العمر إنه ينبغي على الأوروبيين الاستفادة من الفراغ السياسي الموجود حاليا والذي سيستمر حتى نهاية العام الجاري. كما يعول عرفات كما أوضح في تصريحاته كثيرا على الأوروبيين ويأمل في الحصول على دعمهم بعد صدور قرار مناهض للسور من قبل محكمة العدل الدولية في لاهاي ووصف عرفات السور بأنه جدار برلين الذي يجب أن يزال من مكانه حتى يصبح السلام ممكنا مع «إسرائيل». وأوضح الرئيس الفلسطيني أن «إسرائيل» أقامت السور على أراض فلسطينية وحولت مناطق الفلسطينيين إلى غيتو وسجون وأن السور يحول دون بناء الدولة الفلسطينية المنشودة. واعتبر عرفات قرار انسحاب «إسرائيل» من غزة بأنه غير كافٍ، موضحا أنه تم تنفيذ انسحاب «إسرائيل» من جنوب لبنان في العام 2000 بعد ساعات قليلة على اتخاذ الحكومة الإسرائيلية قرار الانسحاب، بينما تماطل «إسرائيل» في الانسحاب من منطقة صغيرة في فلسطين وتقول إنها تحتاج إلى أكثر من عام ونصف العام لتنفيذها. واتهم عرفات الإسرائيليين بالسعي إلى المزيد من الدمار في رفح وخان يونس قبل إتمام الانسحاب من غزة. كما أعرب عن رفضه لخطط «إسرائيل» في مواصلة الاحتفاظ لنفسها في الإشراف على حدود غزة القائمة مع مصر وسيطرتها على المياه والمجال الجوي والمعابر المؤدية على الضفة الغربية. وأكد الرئيس الفلسطيني أن قوى الأمن الفلسطينية ستبذل قصارى جهدها من أجل إرساء دعائم الأمن وسلطة القانون بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من غزة. وهذا ينطبق أيضا على القوى المناهضة لنهجه مثل حركة (حماس). وقال عرفات إن السلطة الفلسطينية وعدت في الماضي بمحاسبة الجميع ونفذت وعدها وزجت بنشطين من (حماس) و(الجهاد الإسلامي) في السجون، ولكن عرفات لا يجد معارضيه كأبرز خطر بل استمرار الاحتلال الإسرائيلي، مشيرا إلى الدمار الكبير الذي أحدثته «إسرائيل» في مناطق السلطة الفلسطينية وتساءل عمن سيقوم بالإشراف على إعادة التعمير إذا ظل محاصرا داخل السجن الذي فرضه عليه شارون. يرى عرفات نفسه مثل التجربة التي مر بها صديقه نيلسون مانديلا إبان نظام جمهورية جنوب إفريقيا العنصري. قال عرفات لصحيفة «فرانكفورتر ألجماينه»: لم يمض مانديلا كل عمره داخل السجن وحين سقط النظام العنصري خرج من سجنه وحصل على منصب رئيس الجمهورية. عرفات يحلم بأن يكون مصيره مثل المصير الذي حالف مانديلا في مرحلة متأخرة من عمره
العدد 685 - الأربعاء 21 يوليو 2004م الموافق 03 جمادى الآخرة 1425هـ