ربما تكون مصر هي الأكثر تهيؤا الآن للتغيير الحقيقي... ربما تكون هي الأكثر قابلية للتغيير طريقا لاجراء اصلاحات واسعة تفتح بابا أوسع للأمل.
نقول انها الأكثر تهيؤا والأكثر قابلية للتغيير والاصلاح، ليس بسبب التعديل الوزاري والإداري الذي جرى أخيرا، وليس كذلك بسبب اشتداد الضغوط الخارجية عليها، وخصوصا الضغوط الاميركية التي تجرى في غالب الأحيان، قوية وعنيفة من وراء الكواليس، بينما يبدو مسرح العلاقات المصرية الاميركية مرحا ويصفق الجمهور فرحا.
لكن الأسباب التي نعنيها تكمن اساسا في الحال التي يعيشها الشعب المصري، هذه الأيام، وهي تعبر بدرجة من الدرجات عن حال مجتمعات عربية أخرى مع اختلاف الألوان وتباين الظلال.
وباختصار نقول ان حال المجتمع المصري يتنازعها اتجاهان متناقضان، اتجاه نعرفه ونعايشه ونعاني منه، ويتمثل في الاحتقان السياسي الاجتماعي الاقتصادي الحاد، الذي يضع المجتمع على حافة الانفجار جراء تزايد الفقر والبطالة والفساد وارتفاع الاسعار، وباقي الأمراض الهاجمة بسبب السياسات الاقتصادية المتبعة على مدى السنوات الماضية، التي وضعت نصف المجتمع تحت وحول خط الفقر، وعرقلت التنمية الحقيقية التي لا تزيد نسبتها الآن على 3 في المئة على الأكثر، بينما كانت في يوم من الأيام تقفز الى 7 في المئة و8 في المئة.
فاذا أضفنا الى ذلك الوضع الاقتصادي الاجتماعي المتدني، فشل النخبة السياسية، في اطلاق الحريات واحترام حقوق الانسان وفي ضمان تداول السلطة بين القوى والاحزاب المختلفة، في ظل نظام انتخابي سليم وشفاف ونزيه، لاكتشفنا بسهولة ويسر أسرار حال الاحتقان الشديدة التي تعبئ الصدور، وتراها بادية على وجوه الساسة والمثقفين، كما على وجوه البسطاء في الشارع المأزوم وصولا للإحباط واليأس العام.
أما الاتجاه الثاني الذي يتنازع المجتمع المصري، فهو على النقيض، يرنو بالأمل العميق نحو المستقبل، ويؤكد ان المجتمع المأزوم سينهض غدا، من دون ان يقدم لنا أصحاب هذا الاتجاه المتفائل اسباب ومبررات تفاؤلهم من الناحية الموضوعية، ولكي نقتنع بأسبابهم ومبرراتهم فان عليهم أولا ان يريحونا قليلا من الشعارات وان يقدموا ثانيا حلولا عملية لأزمات الاقتصاد والفقر والبطالة والمديونية وتخلف التعليم وتراجع الدور المصري عربيا واقليميا ودوليا... الى آخر القائمة المعروفة، بما في ذلك أوضاع الحريات العامة.
من هذا المنطلق لا نستطيع القول ان التغيير او التعديل الوزاري الأخير، هو التغيير الحقيقي المنتظر المعبر عن الاصلاح المنشود كما يروج البعض في كتابات منشورة، تستخف بالعقول، فما جرى هو «نفضة وزارية» أزاحت وجوها قديمة وجاءت بوجوه جديدة، من دون ان يعرف احد أسباب الإزاحة ومبررات المجيء وفي كل الاحوال الظاهرة حتى اليوم فان التغيير تم في الاشخاص، ولم يحدث في السياسات والرؤى والأفكار، وقد تكون أهم مميزاته صعود شباب الحزب الحاكم الى المقاعد الوزارية.
ونظن ان من حق هؤلاء الجدد ان يأخذو فرصتهم لاظهار سياساتهم وأفكارهم الا ان الامر الذي نتحدث عنه، وهو الاصلاح الواسع والحقيقي، يذهب أبعد من ذلك، قبل تغيير الاشخاص وبعده.
ونعني بوضوح كبير لا يحتمل اللبس، ان ما تحتاج اليه مصر والمنطقة بأسرها، هو تغيير فلسفة الحكم، وتجديد شرعيته، واعادة صوغ «رؤية» متكاملة للحاضر والمستقبل، تحدد السياسات والتوجهات، ثم تصب في برامج مختلفة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، تنقل المجتمع من الفقر والاحباط الى التنمية والامل ومن الاستبداد الفردي الى الديمقراطية السليمة.
بحيث يجيب كل ذلك على أسئلة حائرة معلقة أخذت حيزا واسعا من النقاش والجدل والاختلاف من نوع: من هي مصر، ما هويتها، ما هو دورها الراهن في ظل الظروف الضاغطة، وما هو دورها المأمول في محيطها واقليمها العربي، ما هو شكل نظام الحكم، أهو جمهوري رئاسي مثل فرنسا وأميركا أو برلماني بحكومة منتخبة حاكمة مثل بريطانيا وألمانيا وايطاليا والهند... ما هو النظام الانتخابي الامثل والأقرب لشعبنا، أهو الانتخاب الفردي أم الانتخاب بالقائمة، ما مفهوم الحريات وحدودها أي دستور نريد... الخ.
وقراءة صفحات التاريخ والتعرف على تجارب الآخرين تدل على ان كل الدول الناهضة، او الساعية إلى النهوض بدأت البدايات الصحيحة دائما، بتجديد الفلسفة الحاكمة وصوغ الرؤى والسياسات والتوجهات ومن ثم تنظيم البرامج وخطط العمل التنفيذية واختيار الشخص المناسب في المكان الذي يناسب قدراته وخبرته والمهمة المطلوب تنفيذها وليس الشخص القريب والحبيب ولا النسيب المنتسب إلى الحزب أو المجموعة القريبة.
وفي ضوء هذا المفهوم الواسع للاصلاح والتغيير الحقيقيين لا نستطيع ان نصف ما جرى حديثا، تشكيل الحكومة الجديدة في مصر، برئاسة أحمد نظيف «وللاسم مغزى كبير» بأنه تغيير كان الشعب والمنطقة بأسرها تنتظره على أحر من الجمر، أملا في ان تنطلق رياح الاصلاح الديمقراطي السليم من مصر بكل ما تمثله وما تشيعه من تأثير في المحيط العربي.
فنحن أمام خطوة لإعادة ترتيب الدولاب الوزاري غابت عنه وجوه وجاءت أخرى وكلها وجوه تمثل خير تمثيل طبقة التكنوقراط، وتعكس وجه حكومة فنية أكثر منها سياسية، وضعتها الظروف في مواجهة هذا الاحتقان السياسي الاقتصادي الاجتماعي الذي ذكرناه سالفا، من دون ان تكون لها وفي خلفية تفكيرها رؤية شاملة للمواجهة والاصلاح وامتلاك أدواته.
ثم هي حكومة الحزب الوطني الحاكم وحده، كما وصفها كبار مسئوليها منذ البداية، أي أسيرة نظرة واحدة لحزب أقرب الى «المجتمعات الشعبية» منه الى الاحزاب السياسية الملتزمة بفكر ورؤى وبرامج محددة، ولذلك فان بوصلتها مربوطة بما قد يراه الحزب الوطني وحده، المصر حتى الآن على احتكار «الغالبية» وحده، على رغم حديثه الاعلامي عن حواره مع الاحزاب التي تصل الى 16 حزبا، منها القائم ومنها النائم.
وهي حكومة محاصرة بثلاث مناسبات رئيسية حاكمة كبرى على مدى نحو عام من الآن، هي: المؤتمر السنوي للحزب الوطني - صاحبها - في سبتمبر/ أيلول المقبل، والذي يعول عليه كثيرون إطلاق حزمة منتظرة من الاصلاحات، ثم الانتخابات البرلمانية، وانتخابات رئيس الجمهورية في العام المقبل... ولذلك فهي حكومة تعرف بأنها انتقالية أو مؤقتة، الامر الذي يحدد حركتها ويحكم تصرفاتها حتى تسلم الراية إلى الحكومة المقبلة وتخرج هي سليمة من المأزق.
وأخيرا هي حكومة جاءت في أسوأ فترات الضغط الاميركي الأوروبي على مصر وعلى المنطقة العربية كلها، وهو ضغط متعدد الاشكال والألوان، ما بين السياسي والعسكري وما بين الاقتصادي، الثقافي والديني أيضا، تحت راية دفع مصر الى اجراء اصلاحات ديمقراطية حقيقية وشاملة، تكون نبراسا للشقيقات العربيات، على حد قول الرئيس الاميركي بوش قبل شهور: «مصر التي قادت العربش الى السلام من قبل، عليها الآن أن تقود العرب نحو الديمقراطية».
لذلك من الظلم ان نلقي بكل هذه الاعباء على حكومة تكنوقراط، مقيدة بكل هذه القيود، ربما يكون لدى بعض اعضائها وخصوصا رئيسها، مهندس تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، بعض البرامج الطموحة، لكن طبيعة المهمة المكلفة بها وظروف تشكيلها، والتوازنات الحاكمة فيها، فضلا عن قيود الوقت تجعلنا نصفها بأنها انتقالية، نحو آفاق لا نعرفها، لكن هناك حتما من يعرفها ويخطط لها من اليوم وربما منذ الأمس!
ولو كانت غير ذلك، أي حكومة اصلاح وتغيير حقيقيين، لطالبناها بطرح رؤيتها الشاملة، وبرنامجها السياسي العام، الذي اعدته لمواجهة الاحتقان السياسي الاقتصادي الاجتماعي، بعيدا عن البيانات الوزارية النمطية، التي شبعنا منها، والتي لم تنجح حتى الآن في حل مشكلة أو مواجهة معضلة، من تلك التي عصفت بكيان المجتمع، وباتت تهدد وجوده واستمراره واستقراره فضلا عن تهديد دوره الريادي في المنطقة، بالقضاء على ما تبقى منه!
والخلاصة...
ان مصر والمصريين والعرب أجمعين مازالوا في انتظار الخطوة الكبرى للاصلاح الشامل الحامل لمؤشرات الأمل والتقدم والحرية، بعد عقود من التخلف والفقر والفساد والاستبداد، اصلاح تمليه مطالب شعبية ودوافع داخلية، ظلت على مدى العقود تطالب بحقها في الحرية والكرامة والعدل الاجتماعي، وتسعى إلى بناء دولة حديثة على أنقاض دولة تخطاها الزمن بحركته السريعة فدفعها دفعا الى الانزواء في حين تقدم آخرون كانوا قبل سنوات في آخر الصفوف.
ولحسن الحظ فان أدوات صناعة التقدم ووسائل ممارسة الحرية متاحة على أوسع مدى في الفضاء العالمي، الذي تحكمه قواعد جديدة، لايزال بعضنا يتجاهلها بمبررات غريبة وحجج ساذجة هدفها في النهاية هو الحفاظ على الأوضاع الحالية كما هي بحجة الاستقرار.
ونظن ان على الجميع ان يدرك ان الاستقرار الحقيقي لا يقوم على الجمود ولا يعني التحجر ومقاومة التطور ومعاداة التغيير، لكن الاستقرار الحقيقي يقوم على جناحي الحرية والتنمية وكلاهما، الحرية بمفهومها الواسع والتنمية بمفومها الشامل، عمل ديناميكي حيوي لا يتوقف عن الحركة والتقدم والتطور الايجابي الخلاق والمبدع.
لكن تحقيق هذا الفعل الحيوي الديناميكي على أهميته وخطورته يحتاج أول ما يحتاج الى ارادة سياسية، تحزم أمرها، بأن تأخذ المبادرة التي لابد منها، مبادرة اجراء اصلاح ديمقراطي واسع، ينتظر الجميع ان تكون مصر هي السباقة به بحكم ما لديها من مؤهلات صالحة.
فان كانت مصر هي التي اقتحمت التحديث والتطوير، وبدأت النهضة العربية الحديثة، في القرن التاسع عشر، فان واجبها الوطني والقومي، اليوم أكبر، ومسئوليتها اكثر، بحكم ما تمتلكه من خبرات وثروات بشرية وفكرية وسياسية وفنية، وتطلعات مستقبلية فضلا عن دوافع مواجهة الاحتقان السائد وضرورات تفكيك ألغامه بصرف النظر عن الابتزاز الاميركي والضغط الغربي الهاجم من كل اتجاه تحقيقا لاحلامه وحماية لأطماعه.
خير الكلام: قال الشاعر
عَلَيكَ بِالعَزْم إِنْ أُولِيتَ مَمْلَكَة
واحذَر من الظلِم فيها غايةَ الحذرِ
مدير تحرير صحيفة «الأهر
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 685 - الأربعاء 21 يوليو 2004م الموافق 03 جمادى الآخرة 1425هـ