منذ إطلاق محطة «الجزيرة» الفضائية في نوفمبر/ تشرين الثاني 1996 طرحت العملية سلسلة أسئلة. الأول كان عن وظيفة المحطة السياسية. والثاني عن موقع هذه الوسيلة الإعلامية في ظل التنافس العالمي وتفوق الإعلام الغربي وخبرته الطويلة في هذا الميدان. والسؤال الثالث تعلق بالاضافات الجديدة التي يمكن أن تقدمها محطة فضائية عربية في مجال محكوم أصلا بتدني الحريات في منطقة لم تتعود هذا النوع من الانفتاح والمكاشفة.
هذه الأسئلة الثلاثة نجحت «الجزيرة» في الاجابة عنها خلال فترة قصيرة لم تتجاوز السنوات الثماني. فمن الناحية السياسية أثارت المحطة اهتمام الأنظمة وجذبت الملايين من المشاهدين من المغرب إلى المشرق ومن المحيط إلى الخليج. فالمحطة أثارت القلق وجلبت التوتر إلى منطقة شديدة الحساسية من الكلام الصريح والمباشر. وإعلاميا نجحت المحطة في خوض غمار التجربة الميدانية، فهي لم تقعد في غرف الاخبار والأستديوهات تتلقى ما يصلها من وكالات الأنباء من صور وأخبار وتعيد تقطيعها وصوغها وإعادة بثها إلى المشاهدين، بل إنها اقتحمت ساحات الحدث وأرسلت فرقها الخاصة للبث المباشر من أمكنة كان من الصعب سابقا أن نجد فيها «المراسل العربي». فالمحطة كسرت التقليد وتخطت الحاجز النفسي وشكلت قوة مستقلة تنافس «المراسل الغربي» في ميدان الحدث. وأحيانا تسابقت معه وتجاوزته في الكثير من الحالات. وبسبب هذا التوجه الميداني حصلت مفاجأة انقلابية فأخذت محطات البث الأميركية والأوروبية تنقل عن «الجزيرة» بعد أن تعود جمهور المشاهدين العرب حصول العكس. وفي هذا المعنى يمكن القول إن «الجزيرة» كسبت معركة الثقة حين قدمت إضافات جديدة للاعلام العربي الذي اتصف طوال عقود بالبلادة والقعود وعدم التحرك أو الاستجابة للحدث. فالمحطة الجديدة كسرت صورة المراسل العربي الجالس وراء الطاولة ينتظر الأخبار من الوكالات ليقوم بتقطيعها وحذف ما هو مطلوب منه حذفه ثم إعادة تركيبها وصوغها لغويا قبل بثها إلى المستمع أو المشاهد. و«الجزيرة» في هذا السياق كسرت الصورة النمطية عن الصحافي العربي وقدمت إلى الغرب صورة جديدة مضادة لتلك النمطية التي كانت سائدة في ذهن الصحافي الأجنبي عن المراسل العربي.
هذه التجربة كان من المتوقع لها ألا تمر من دون خضات وهزات سياسية. فهي عانت الحصار من دول الطوق في منطقة الخليج وأثارت الحساسيات وافتعلت الأزمات وكادت أن تورط الكثير من الأنظمة المحيطة في مشكلات تجاوزت أحيانا حدة الكلام. إلا أن «الجزيرة»، وهذا هو الموضوع، أسست من حيث لا تدري صورة جديدة للاعلام العربي وتحديدا في منطقة الخليج وشجعت الكثير من المحطات المحلية والإقليمية على تطوير نفسها للتكيف مع الحالات التي أثارتها محطة مثيرة للانتباه والقلق. والآن يمكن القول إن «الجزيرة» وضعت قواعد عمل من الصعب تجاوزها أو تغييرها. فالمشاهد العربي لا يمكن له الآن أن يتصور أن ينهض في الصباح أو ينام في المساء من دون وجود لمثل هذه المحطة أو المحطات المشابهة لها. فهي ترسخت في ذهنه وباتت تشكل في «لا وعيه» حالا من حالات التقدم والانفتاح وضرورة سياسية لابد منها حتى لو كان يكره الكثير من برامجها أو لا يرى فيها تلك الصورة الجاذبة لاهتمامه. فالمسألة تعدت الموقف الأيديولوجي لتدخل في العمق الوجداني الذي يتخوف من اهتزاز الصورة المنقولة مباشرة، لأن الاهتزاز يعني النكوص والعودة مجددا إلى تلك المشاهد الرسمية المدروسة والمنظمة والمنمطة التي كانت سائدة ولاتزال في المنطقة قبل 11 نوفمبر 1996.
«الجزيرة» احتفلت في الدوحة في 12 و13 يوليو/ تموز الجاري على طريقتها الخاصة في إعادة طرح تلك الأسئلة الثلاثة بدعوتها إلى مؤتمر عالمي أطلقت عليه منتدى «الإعلام في عالم متغير» تناولت فيه «المعايير المهنية» في ظل «التعددية الثقافية» فجذبت إليه أكثر من 120 إعلاميا بحثوا في المتغيرات المهنية في ظل ضغوط باتت تمارسها الآن بعض الدول الديمقراطية ضد محطات عربية غير متوافقة مع توجهاتها السياسية.
المنتدى نجح في تقييم تجربتها وشد الانتباه مجددا إلى «الجزيرة» وخرج بميثاق شرف مهني. وبقي السؤال: هل يكفي ميثاق شرف لترسيم حدود الصورة وتوضيح الاختلاف بين المعايير المهنية والانحياز الثقافي لقضايا سياسية ملتهبة؟ الجواب لا. فالمسألة تتجاوز حدود المهنة وتطاول المصالح. فالإعلام في النهاية يوجه ولا يقرر، ومن الصعب أن يكون محايدا لأنه يعكس في حدود نسبية مصالح متفاوتة.
تقول «الجزيرة» إن هذا المنتدى هو الأول وستعقده سنويا، ونتمنى أن يكون عنوان المنتدى الثاني هو «الإعلام العربي في عالم متغير»، ويمكن إضافة فقرة عن دور «المصالح السياسية» إلى العناوين الفرعية التي تركزت على «المهنية» و«التعددية»
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 681 - السبت 17 يوليو 2004م الموافق 29 جمادى الأولى 1425هـ