حمى وطيس المعركة الدائرة بين مؤيدي صدور تشريع يمنح أعضاء مجلس الشورى والنواب معاشات تقاعدية - وهم من أعضاء مجلس النواب - وبين معارضي هذا الاقتراح من رأي عام وجماهير وصحافيين. واستنادا إلى إيمان عميق بدور الفقه كأحد موجهات التشريع يتعين إبداء الرأي في هذا الاقتراح، ما يستدعي تناوله عرضا وتحليلا ونقدا من الزاوية القانونية. ولعل أول ما يسترعي الانتباه المذكرة الإيضاحية للمقترح وما تضمنته من أن "عضوية مجلس الشورى والنواب خدمة وطنية ابتغاء وجه المصلحة العامة للمجتمع بأسره، ليس الهدف منها تحقيق كسب مادي بتقاضي مقابل عنها، إنما هي تكليف يلقي على كاهل من ارتضى حمل أمانته أداء رسالة سياسية وهب نفسه لها. والوفاء بعهد أعطى عنه موثقا لمن أولوه ثقتهم في الاضطلاع بهذه الأمانة، إلا أن التقاليد المألوفة في مختلف برلمانات العالم جرت على تقدير المعاش التقاعدي لممثل الشعب لمواجهة الأعباء المالية والاجتماعية والمصروفات التي تفرضها عليه مهمته وواجباته نحو المواطنين وضرورة المحافظة على مظهر لائق ومستوى معيشي يتناسب مع هذه الأعباء المتزايدة، ولاسيما في غمار الظروف الاقتصادية الراهنة وإزاء ارتفاع مستوى الحياة ونفقاتها، لذلك بات من دواعي العدالة الاجتماعية توفير قدر عادل من التعويض عن هذه التكاليف بتقرير معاش تقاعدي لأعضاء المجلسين تأمينا لهم ضد ظروف الحياة وتمكينا لهم في الشعور بالأمان أثناء توليهم وظائفهم النيابية". وأول ما يلاحظ على هذه المذكرة الإيضاحية مخالفتها لنص المادة "39" من المرسوم بقانون رقم "45" لسنة 2002 بشأن اللائحة الداخلية لمجلس النواب. والتي نصت على أن يرفق بمقترحات القوانين المقدمة من أعضاء مجلس النواب مذكرة إيضاحية تتضمن تحديد نصوص الدستور المتعلقة بالاقتراح. والمبادئ الأساسية التي يقوم عليها والأهداف التي يحققها ومن الواضح أن المذكرة الإيضاحية قد نأت بنفسها عن كل ذلك بل وعن الإشارة إلى النص الدستوري صاحب المرجعية في هذا المقترح وهو نص المادة "69" من الدستور والتي نصت على أن "تحدد بقانون مكافآت أعضاء كل من مجلس الشورى ومجلس النواب...". ولعل أخص ما يثير الاهتمام في هذا الخصوص أن النص الدستوري المذكور أعلاه قد سمى ما يتقاضاه أعضاء المجلس بالمكافأة على خلاف نص البند "ب" من المادة "54" من الدستور والتي سمت ما يتقاضاه الوزراء بالمرتبات إذ نصت على انه "يعين القانون مرتبات رئيس مجلس الوزراء والوزراء". وتتبدى أهمية المقارنة بين "المكافأة" و"المرتب" الواردة في النصين المذكورين أعلاه بعد استعراض نص المادة الأولى من المقترح والتي نصت على انه "يعامل الرئيس ونائب الرئيس في كل مجلس والأعضاء في كل من مجلسي الشورى والنواب معاملة الوزير من حيث المعاش التقاعدي وذلك على أساس مرتب الوزير الخاضع للتأمين في تاريخ انتهاء العضوية وسائر البدلات المقررة له". وإذ إن المشرع قد فرق بين "الراتب" و"المكافأة" فلم يخلط بينهما ولا أدل على تلك التفرقة مما ورد في نصوص القانون رقم "31" لسنة 5791 بشأن تنظيم معاشات ومكافآت التقاعد لموظفي ومستخدمي الحكومة وتعديلاته ما أورده من تعريفات تناولت الراتب على اعتبار انه الأجر الذي يتقاضاه الموظف الخاضع لأحكام هذا القانون وان المعاش هو المبلغ الذي يصرف شهريا بموجب هذا القانون للمتقاعدين أو للمستحقين عنه وان المكافأة هي المبلغ المقطوع الذي يصرف بموجب هذا القانون للمتقاعد أو المستحقين عنه. كما أن المادة "93" من القانون المذكور تبين مقدار المكافأة التي يستحقها الموظف إذا كان غير مستحق عند تركه الخدمة للمعاش التقاعدي فيتقاضى مرتب شهر ونصف عن كل سنة كاملة من سنوات خدمته الخمس الأولى ثم بواقع شهرين عن كل سنة من السنوات الخمس التالية، ثم بواقع ثلاثة شهور عن كل سنة مما زاد على ذلك. وإذ إن مصطلح الراتب أو الأجر يختلف عن مصطلح المكافأة وهناك تخوم ظاهرة بينهما في فروع القانون كافة فلما كان ذلك وكان المعاش هو الأجر الذي يحصل عليه الموظف بعد انتهاء خدمته بسبب العجز أو الشيخوخة أو الخدمة الطويلة المنصوص عليها في القانون وكان هذا المعاش يقدر بقدره بحسب سنوات خدمة الموظف وكانت المكافأة هي المبلغ المقطوع للمعاش التقاعدي ويتسلمه مرة واحدة كما إنها "المكافأة" هي المبلغ الذي يحصل عليه العامل مرة واحدة عند انتهاء خدمته طبقا للمادة "111" من قانون العمل طالما لم يكن خاضعا لإحكام قانون التأمينات الاجتماعية. فلا لبس ولا غموض في تحديد المعنى القانوني لمصطلح المكافأة الذي يختلف تماما عن المرتب. وإذ إن المشرع الدستوري قد سمى البدل الذي يتقاضاه النواب بالمكافأة على خلاف البدل الذي يتقاضاه الوزراء والذي سماه المشرع المرتب، لذلك فان الانحراف بمبنى ومعنى المكافأة لتحويله إلى مرتب حتى يتسنى القول بصحة تشريع يقدر معاشا على المكافأة يعد مخالفة لنص المادتين "69" و"54" من الدستور. ولعل أبدى صور المخالفة الدستورية في المقترح موضوع البحث هي مجموعة من العيوب الموضوعية المتمثلة في عيب المحل وعيب الانحراف في استعمال السلطة التشريعية أو الانحراف التشريعي. وسنولي اهتماما خاصا لعيب الانحراف في استعمال السلطة التشريعية وفي هذه الناحية يوجد تقارب مع الانحراف بالسلطة الإدارية في مجال الطعن لتجاوز السلطة، لان هذا العيب في القرار الإداري لا يتحقق إلا إذا كانت الإدارة في نطاق تمنحها فيه نصوص القانون سلطة تقديرية لتقدير ملائمة اختيار القرار الإداري الذي تراه مناسبا، ولكن مهما كانت السلطة تقديرية للإدارة في هذه المجالات، إلا أن كل قرار يجب أن يستهدف عموما الصالح العام وإلا كان معيبا بانحراف السلطة فعيب الانحراف بالسلطة هو الذي يمثل قيد المشروعية على الإدارة في مجالات سلطتها التقديرية. وهكذا يكون أيضا عيب الانحراف التشريعي، فهو لا يتحقق في إطار السلطة المقيدة للمشرع، بل في المجالات التي يكون الدستور قد أعطاه سلطة تقديرية لتقدير أسباب التشريع وأسلوب التنظيم الذي يراه بحرية. وهذا هو شأن المادة "69" من الدستور والتي تركت لمجال القانون تحديد مكافآت أعضاء كل من مجلسي الشورى والنواب. ويبرز عيب الانحراف التشريعي في حد يلتزم به المشرع في نطاق هذه السلطة التقديرية بان يلتزم بقيد واحد على الأقل وهو عدم الانحراف عن الصالح العام أو عن الغاية المعينة التي تحددها بعض نصوص الدستور. ويجب في هذا الخصوص ألا تخدعنا المقدمة الإيضاحية للمشروع موضوع البحث والتي حاولت أن تسبغ على المقترح غاية الصالح العام وذلك أن هذا العيب - عيب الانحراف التشريعي - لا يتضمن مخالفة مباشرة من المشرع لظاهر نصوص الدستور بل يتضمن مخالفة لروح النصوص وفحواها أو مقاصدها، فهو عيب يحتاج لتقصي ولا يظهر لأول وهلة. لأنه يتصل بغايات القانون ومقارنتها بغايات الدستور أو نصوصه. ولأنه عيب يتصل بالمقاصد والبواعث أو الغايات، فهو صعب الإثبات كما انه ليس سهلا إسناده للسلطة التشريعية التي تجمع نواب الأمة، إذ انه ليس آمرا عاديا بان تسند لنواب الشعب الانحراف عن الصالح العام. ويمكن تمييز عيب الانحراف التشريعي بالمعيار الذي نقيس على هديه مدى تحقق عيب الانحراف بالسلطة الإدارية في مجال القضاء الإداري، ففي هذا المجال الأخير إذ يعتبر عيب الانحراف عيبا يؤدي إلى إلغاء أو إبطال القرار لعدم مشروعيته في عنصر الغاية، يكون معيار قياس عيب الانحراف ذا شق ذاتي وشق آخر موضوعي، الشق الذاتي يتعلق بالتعرف على الاغراض والنوايا والغايات التي انتواها وأضمرها رجل الإدارة من وراء قراره ، والشق الموضوعي هو المصلحة العامة التي يجب أن يتوخاها أصلا كل صاحب قرار أو الغاية المخصصة له بنص خاص لنوع معين من القرارات. وهذا لا يمكن تطبيقه على انحراف ممارسة السلطة التشريعية. إذ من الممكن أن نقول إن رجل الإدارة انحرف عن الصالح كغرض موضوعي إلى غايات بعيدة عنها عمدا، غايات شخصية كالانتقام أو تحقيق مصلحة شخصية له أو لشخص آخر، ولكن هذا غير ممكن إسناده إلى السلطة التشريعية، التي يفترض فيها دائما أن تستعمل سلطتها لتحقيق الصالح العام، وحتى لو أرادت بالتشريع غير ذلك فهي تغلف مشروعها أو قانونها بثوب الصالح العام في المظهر على الأقل. طبقا لما ورد بمذكرة المقترح وواقع الحال انه بعيد عن الصالح العام ولا يتفيا سوى مصلحة النواب والذين يهدف البعض إلى زيادة عددهم وتوسعة صلاحيتهم على حساب مجلس الشورى المعين والذي يحمد له انه لم يبدر لأي من أعضائه تأييد لهذا المقترح على رغم ما يتعرضون له من نعوت ألطفها تبعيتهم للسلطة التنفيذية وتتراوح النعوت والانتقادات في الشدة إلى وصفهم بأصحاب الغايات الشخصية، ونأمل أن يستمروا في صمتهم إزاء هذا المشروع بل والاجهار بمعارضته ليضربوا مثلا في دفاعهم عن الصالح العام ويؤكدوا أهليتهم للثقة التي حصلوا عليها بالتعيين، طالما أن النواب لا يأبهون بالثقة التي نالوها من الشعب في منافسة لم تحتدم بعد. ويمكن التعرف على المخالفة الدستورية في المقترح بابتعاده عن غايات تحقيق الصالح العام والتي كانت ماثلة للمشرع الدستوري في نص المادة "69" من الدستور المعدل والمطابقة لنص المادة "97" من دستور 3791 بما يؤكد تعمق نية المشرع الدستوري في هذا الخصوص وتنزيها لنص المادة "69" المذكورة من مقالة أنها لم تصدر عن السلطة التأسيسية الأصلية - كما هو مذهب البعض - فقد نصت هذه المادة على انه: "تحدد بقانون مكافآت أعضاء كل من مجلس الشورى ومجلس النواب، وفي حالة تعديل هذه المكافآت لا ينفذ هذا التعديل الا ابتداء من الفصل التشريعي التالي". وتجلت المخالفة الدستورية في أجلى مظاهرها في المقترح موضوع البحث بما ينم عن نية جلب المصلحة الذاتية بعيدا عن المصلحة العامة التي هي غرض التشريع فيما نصت عليه المادة "7" من المقترح والتي جرى نصها على انه "يعمل بهذا القانون اعتبارا من تاريخ انعقاد الفصل التشريعي الأول للمجلس".
* محام بحريني
العدد 670 - الثلثاء 06 يوليو 2004م الموافق 18 جمادى الأولى 1425هـ