يتعرض الإسلام، قبل وبعد الهجمات في واشنطن ونيويورك، لحملة إعلامية سياسية مالية غربية بعامة أميركية بخاصة على خلفية الحرب على الإرهاب بعد تحويله الي امبراطورية «شر» بالمطابقة بين عقيدته والإرهاب. وقد كشفت مفردات الحملة، على رغم نفي الحكومات الغربية، أن المقصود هو الإسلام في ذاته ولذاته، وليس تيارات إسلامية معينة، لأن الإجراءات (ملاحقة الجمعيات الخيرية والشخصيات العاملة في مجال الشأن العام، وأموال الأوقاف) والمطالب المعلنة (تبديل برامج التعليم الإسلامي، ومراقبة المدارس الإسلامية، خطب الجمعة، برامج دعم الدول والجمعيات الإسلامية، والدعوة إلى حصر الممارسات الإسلامية بأداء العبادات في إطار ما وصفه رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير «بالإسلام العادي» ...الخ). وقد بلغت الحملة ذروة غير مسبوقة باتهام القسّ الأميركي فولول للرسول (ص) بالإرهاب.
ما سرّ الحملة على الإسلام؟
يكمن سرّ الحملة الغربية على الإسلام في نقطتين رئيسيتين هما:
1- كون الإسلام صاحب رأي ورؤية كونية في شئون الإنسان السياسية والاقتصادية والاجتماعية، رؤية هي نقيض مطلق للوحشية التي تقوم عليها الليبرالية الجديدة التي تبشر بها أميركا، إنه صاحب فلسفة تحترم الإنسان لذاته، تقيم توازنا بين الفرد والجماعة، بين البشر والطبيعة، وتربط سلوك الإنسان بهدف حياتي رئيسي: عمارة الكون، وتسعى إى جعل الكون بيئة صالحة لحياة إنسانية سعيدة وآمنة ومستقرة، في إطار من حرية الاعتقاد والعدل والمساواة وفي ظل العزة والكرامة عبر إلزام المسلمين بالدفاع عن الأرض والمال والعرض، وإعلاء شأن المدافعين ورفع منزلتهم عند الله الى مرتبة الشهادة (هنا يمكن ان نشير الى وحدة الموقف الأميركي الإسرائيلي ضد البعد الجهادي في الإسلام حماية لإسرائيل وللمصالح الأميركية في آن واحد)، وتضع لهذا السلوك البشري ضابطا من خارج رغبات الإنسان ودوافعه الذاتية بربط هذا السلوك بالجزاء في الحياة الثانية (الآخرة).
2- كون الإسلام الهيكل الأساسي للشخصية العربية، ولأن اجتثاثه اجتثاث لها ودفعها إلى حال فقدان توازن وهشاشة تجعلها - بعد تجريدها من القيم والمعايير التي شكلت، عبر التاريخ، أسّ هويتها وخط دفاعها الأول عن بقائها ومستقبلها، وتحويلها الى كتلة لا منتمية فاقدة الاتجاه - قابلة للاستتباع. فالمطلوب فصل العرب عن الإسلام - الإسلام الذي نقل العرب من المجتمع القبلي إلى مجتمع الأمة، ودخل في تركيبها القومي، وصنع حضارتها عندما أصبح مضمونا للحياة فيها، وغدا بنظرته الشاملة إلى الحياة: الفرد والمجتمع والكون... الخ، الهيكل الأساسي للشخصية العربية، بحيث أصبح كل عربي، وإن لم يكن مسلما، ذا شخصية إسلامية، لأنه تمثل في شخصيته الحضارة الإسلامية التي حدّدت لها المعايير التي يحكم بها على الأحداث والممارسات ويميّز بها بين المقبول والمرفوض اجتماعيا، والتي أخذ منها ضابط التحريم، أو ما يسميه علم الاجتماع الغربي «التابو»، وأصدر أحكامه على ما يدور حوله من أحداث يوميا مبرزا مكنون شخصيته الحضارية - وتركهم بلا تاريخ، بلا هوية، بلا مرتكزات حياتية، وتحويلهم الى جسد بلا روح، بلا ملامح، حتى يسهل وضع هوية بديلة لهم تستجيب لاعتبارات الهيمنة الأميركية وأهدافها في تحويلهم إلى مادة لمشاريعها ومبادراتها الكونية.
إن الهجوم على الإسلام ونظمه الاجتماعية/الاقتصادية/السياسية بخاصة، ومن دون تمييز بين الإسلام وقراءاته المتعددة، بوضع الجميع في سلة واحدة، يكشف عن نزعة عدوانية شمولية وإقصائية ترفض الإسلام لذاته، لأنها لا تقبل غير قيمها وذاتيتها سلوكا كونيا من جهة وعن السعي للتخلّص من قيم ومعايير سياسية اقتصادية اجتماعية بديلة ذات نزوع عالمي من جهة ثانية. فالدعوة إلى إسقاط البعد السياسي والاجتماعي من الإسلام والإبقاء على العبادات محاولة خبيثة لمسح ما اكتسبته الشخصية العربية والمسلمة من تجربتها الحضارية، وما أصبح هيكلا أساسيا لها، من معرفة حضارية (قواعد سلوك، آداب، تقاليد، معارف، شرائع... إلخ)، تجعلها بنت مجتمع معيّن تتصور المشكلات والحلول، شكلا ومضمونا، بما يتفق مع المعايير الحضارية الكامنة فيها - ذلك لأن فهم المشكلات فهما صحيحا لا يمكن أن يقتصر على الجوانب القريبة والمباشرة للمشكلة، وإنما يجب أن يشمل الجذور المجتمعية المتمثلة بالقيم المجتمعية وبالمحصلة الفكرية والعملية للأمة، وهذا يعني أن الحل الصحيح للمشكلة غير ممكن إلا من خلال الفهم الشامل الصحيح والعميق لمحصلة الماضي الفكرية والعملية، وإلا كان حلا سطحيا وفاشلا - وتجربة حياتية (طرق عمل، أنماط حياة، أساليب حل المشكلات... إلخ) وإعادة الأمة العربية الى المربع الأول في مسيرة الحياة.
يشكّل الهجوم على الإسلام مدخلا لفرض سياسات صراع الحضارات التي تبشّر بها النخبة الأميركية، ولكنه لا يقود تلقائيا الى حسم الصراع لسببين جوهريين:
أولهما: أن الهجوم على الإسلام يستفزّ أكثر من مليار مسلم ينطلقون من فكرة محورية واحدة هي أن الإسلام عقيدتهم ومقياسهم للعدالة الإنسانية والحكم الصالح ومحاربة الفساد، وأنه مرجعيتهم العقائدية للصراعات الداخلية ضدّ الحكومات الاستبدادية العلمانية ولصراعات أقلياتهم المسلمة من أجل التحرر من السلطات غير المسلمة التي تضطهدهم.
وثانيهما: ان انفجار الصراع سيقود إلى فوضى شاملة، ذلك لأن المسلمين الذين يفتقدون الى قيادة فكرية - سياسية - اجتماعية موحدة، سينخرطون في قتال ضد بعضهم - ضدّ الذين سيقبلون بالرؤية الأميركية - وضدّ من حولهم من دول ومجتمعات حيث ستصبح الكرة الأرضية ساحة لمعركة مريرة دامية، ريثما ينجح طرف في سحق الآخر، أو ينجح المسلمون في حشد قواهم حول قيادة موحدة تقود الصراع ضدّ العدوان الأميركي، وينجحون في صوغ توازن دولي يشجع الحضارات والمجتمعات والشعوب التي لها مصلحة في هزيمة المشروع الأميركي للهيمنة على العالم على إقامة تحالف دولي ضدّ العدوانية الأميركية والذي قد يحسم الصراع بالتوجه نحو تعددية سياسية وثقافية/حضارية في العالم.
إن معركة المسلمين، معهم قوى السلام العالمي، ضدّ الأمركة الغازية بقيمها ونظمها، معركة دفاع عن الإنسان ذاته، وعن مستقبل البشرية وهذا يجعلها معركة شاملة يستدعي تحقيق النصر فيها التسلح بمضامين وقيم حضارتنا الإنسانية، بعد تخليصها ممّا علق بها من مجالات وما نما داخلها من سلبيات في عصور الانحطاط، وإلى توفير أدوات صراع ناجحة وحشد القوى الدولية المتضرّرة من الهيمنة الأميركية وإلى طرح بدائل سياسية اقتصادية اجتماعية لليبرالية الجديدة تحقق إنسانية الإنسان في حياة آمنة ومستقرة ومزدهرة
العدد 67 - الإثنين 11 نوفمبر 2002م الموافق 06 رمضان 1423هـ