(مردوك أصغر الآلهة)
بثت قناة «العربية» برنامجين لعملة واحدة ذات وجهين ويتحدان بعضهما بعضا، الاول بعنوان: «الصنم» والثاني بعنوان: «جورج بوش»، الاول يظهر تمجيد المعوزين والخائفين والمقهورين والبسطاء من الناس لرئيس لم يعرف سوى «البطش» و «التنكيل» والدفن في «المقابر الجماعية» والضرب بـ «الكيماوي» لكل من لا يؤمن بفكره ومنهجه الثوري. والآخر يظهر رجلا يأخذ بيد حزبه ويأخذ حزبه بيده لتولي السلطة في أعظم قوة على وجه الأرض في قرننا هذا، من خلال رحلة انتخابية يرافقه فيها مجموعة من الصحافيين من مختلف قطاعات الصحافة المرئية منها والمسموعة والمقروءة.
في البرنامج الأول نرى الرصاص يتطاير في كل مكان ونرى القتل بالقنابل بمختلف أشكالها والاجساد المتفحمة والمنتفخة كما النطيحة التي حُرّم أكلها، ونرى أعياد الميلاد الماثلة في البهرجة والنساء الراقصات والاطفال المنشدين للشعر المستعار من مخازن التاريخ الخازن لأغبرة مستوردة من مجاهل التاريخ ونهاية لم يتوقعها الشيطان ناهيك عن الصنم نفسه وكلكم تعرفونها. والبرنامج الثاني يظهر رئيسا يطمح للرئاسة لدورة ثانية يتحدث بشكل طفولي، ويأكل بشكل طفولي، ويلقي البرتقال المطبوع عليه صور لقلب مجروح بشكل طفولي، وينام بقناع يمنع وصول الضوء إلى وجهه لا إلى سريرته وبصيرته بشكل طفولي، ويخطب خطابات يقف لها المجتمعون مصفقين راقصين ملونين وجوههم بأصباغ زاهية وذات صلاحية طويلة الأجل! رئيس تقف خلفه أجهزة القمع والقهر والمباحث التي تبحث عن شيء لا تعرف ماهيته، ورئيس يقف خلفه فيل وديع يحمل على ظهره حلم أمة تود أن تقود العالم لفترة طويلة.
في الفيلم الأول المخصص لـ «الصنم» تظهر الزوجة بشكل يُظهر بكل وضوح قيمة الرعب الذي عاشته بجور «الصنم» وان تغطى بوجوه أو أقنعة تُظهر الفرح المليء بالحزن واليأس. ويظهر الفيلم كم هي سعيدة الآن وإن هي لم ترث شيئا من حطام الدنيا بعد أن أخذ «الصنم» إلى حيث لا يدري أو يدري. في الفيلم الثاني تَظهر الزوجة رابطة الجأش، سعيدة الوجه، باسمة الفم، نحيفة الخصر، ترتدي فساتين بسيطة كبساطة السحاب المتحرك في فضاء الكون من دون حدود، تمطر بركاتها على زوجها الذي تراه من خلال شاشات التلفزة والصحافة، يُسوق لأفكار حزبه بشأن الضرائب ورعاية كبار السن والسياسة الخارجية والصحة والتربية وغيرها من أمور مستقبلية تعجز هذه العجالة عن تسطيرها. في الوقت الذي كان يظهر «الصنم» بأسلحته المتنوعة تارة بالسيف وهو يدعي إنه سيف ورثه من أجداده، وتارة بالبندقية التي ورثها من أجداده، وتارة بالقلم الذي ورثه طبعا من أجداده.
ما يعجب له المشاهد الحر والحاضر البديهة أن الفيلم الأول يظهر البسطاء من الناس يهللون ويرددون «منصور إنشاء الله منصور»، و«بعون الله منصور» و«يشهد الله يالبطل إنك راعي النخوة والشهامة والعرب»، و«بعونك» و«مادام أنت»، «وليش ما قلت إنك نبي»، وغيرها من كلمات البسطاء أنه يغفل وبكل بساطة حديث أولئك الذين يفترض فيهم الرجاحة والعقل والشهامة والذين كانوا يمتلكون زمام السلطة؛ الحديث المليء بالنفاق و الكذب والتجميل لأفعال ما أنزل الله بها من سلطان. زينوا له حروبه مع الجيران والثيران والبقر. زينوا له ضرب «حلبچة» ودفن الناس في «المقابر الجماعية»، زيّنوا له تجويع الفقراء بحجج المستقبل الذي لم يعرفوا ما كنهه. زينوا له «أمجاد يا عرب أمجاد»، و«بالسيف» زينوا له كل شيء وتركوه في النهاية بلاشيء.
فأين الفيلم من مقولات الزعماء العرب والمثقفين العرب والمتكالبين العرب من أفعال «الصنم»، كيف رأى جميع هؤلاء في أفعال «الصنم» شهوة النصر وعلى ماذا؟ على شعوبهم الضعيفة الباحثة عن لقمة العيش الكريم والحياة الهانئة والفخر باللسان العربي؟ أين الفيلم من أبناء «الصنم» وجميع أفراد عائلة «الصنم» وأفعالهم التي فاقت كل ما يمكن أن يتصوره العقل؟ وأين الأقلام التي كان من المفترض منها أن تسطر النور الأسود في السواد الأبيض؟
في الفيلم الثاني الرئيس وصل إلى البيت الذي يريد أن يسكنه وزوجه برخصة من الشعب وهو بمثابة الجنة على الأرض، فيه كل ما يمكن وصفه ولا يملكه أحد ولا يسمى قصرا وهو أفخم من كل القصور التي رأيتها. بيت أبيض. هذا كل ما في الأمر. سكنه كثيرون يفوق عددهم الأربعين. بيت أبيض فيه مكتب بيضاوي يدار من قلبه العالم. مكتب بيضاوي فيه هاتف أحمر تم تعطيله أخيرا لانتهاء صلاحيته نتيجة الانتصار، وظل الهاتف الأسود يعمل على مدى أربع وعشرين ساعة. مكتب بيضاوي به مكتب خشبي من الصاج وعليه قلمان أحدهما أسود والآخر أحمر لاغير، وقلم ثالث في جيب الرئيس. مكتب بيضاوي به سجادة بيضاوية لم تستبدل منذ أمد بعيد. مكتب بيضاوي يدخله الوزراء والزوار والطلبة والدارسون والفتيات الجميلات المتدربات اللواتي قد يكون نصيبهن الشهرة أم التشهير! مكتب بيضاوي لاغير يدير العالم. غرف أخرى خاصة لنوم الرئيس وعائلته. غرفة للطعام. وبعض المرافق التي يحتاج إليها الانسان وإن كانت لا تناسب أهل «تكساس». بيت أبيض يقول ساكنه الأول «إنه شرف عظيم أن أكون رئيس الولايات المتحدة الأميركية» وجميل أن «أرى الشمس في الصباح» من المكتب البيضاوي، ويفتخر لكون زوجته «لورا» «صممت السجادة لتحتضن الشمس» ويفتخر لأنه يجلس على مكتب جلس عليه رؤساء كثيرون من قبله ويقول فيه «إنه قطعة رائعة من الأثاث»، ويردّد في الصباح والمساء أن «الرئيس يجب أن يكون رئيس الجميع»، و «أهداف» الرئيس «يجب أن تكون للجميع»، و«أنا من تكساس وإليها أعود»، أي إنه لا يحلم أن يستولي على البيت الأبيض طوال حياته. في هذا البيت الأبيض يختار الرئيس لوحاته ويضع تماثيل من يشاء ممن يحب.
«الصنم» وصل إلى حفرة هو حفرها لاخوانه جميعا من دون استثناء فوقع فيها ولم يستطع انتشال نفسه لولا الرئيس الثاني وجنوده، أو لنكن أكثر دقة ولنقل «حُفيرة» حفرها حيوان صغير للحاجة فوجدت جاهزة للاستخدام فاستخدمت من قبل باني القصور التي لا يعرف عددها وتعداد ساكنيها؟ وهادم الديار والبلاد ومشرد الضعفاء قبل الأوغاد وقاطف الزهور. قصور لا ترتقي هي حقيقة إلى مستوى الخرائب التي ذكرها التاريخ تزينها أصنام وأحلام ما أنزل الله بها من سلطان. قصرٌ يبعد عنه بأمتار قصرٌ آخر. غرفٌ كأنها المتاهات في حدائق الدول المتحضرة. قصور تفتقد إلى ساكن ناهيك عن قاطن. «صنم» وصل إلى حفرة بعد أن حملت شفتاه «السيجار الكوبي الفاخر»، وبعد أن ألبس جسده المترهل «أغلى الثياب من أشهر الماركات العالمية»، وأكل بعد أن أجاع شعبه كله «اشهى الاطعمة والحلويات»، وبعد أن وضع على معصمه ومعصم عشيقاته «المجوهرات من اشهر المتاجر في العالم». بعد كل هذا انتهى «في جحر فأر حقير ثيابه قذرة ولا يجد من يطعمه كسرة خبز، فلم تنفعه قصوره ولا جيوش مساعديه ولا أموال الشعب التي نهبها هو وأولاده واعوانه». والمصيبة الكبرى انه لم يكن يحلم أبدا أن يعود إلى «تكريت» التي ولد فيها ولا إلى قصره هناك إذ أصبح مرتعا لكل من هب ودب من فناني الدرجة العاشرة يصوّرون فيه الفيديو كليب!
ولابد من الإشارة إلى أن «القيادتين الأميركية والبريطانية تتمركزان في قصرين من أكبر قصوره وهما مجمع القصر الجمهوري في بغداد وهو عبارة عن مجموعة قصور كبيرة تقع على مساحة تمتد لعدة كيلومترات وتسمى بالمنطقة الخضراء؛ والقصر الآخر في مدينة البصرة جنوبي العراق».
توقيت الفيلمين عجيب غريب. «الصنم» سيذهب إلى مجاهل التاريخ وقبل ذلك إلى مجاهل القانون بعد محاكمته في نهاية الشهر أو تقديمه للمحاكمة وإن طولب بإطلاق سراحه لكونه «أسير حرب» بعد أن تخرج الآلة العسكرية المحتلة من بلاده وقصوره الخربة. والرئيس يخوض من جديد حربا ضروسا ليصل من جديد لأربع سنوات قادمة إلى «البيت الأبيض» و«المكتب البيضاوي» و«الغرفة الدبلوماسية» و«غرفة لورا» و«ليوان الصحافة» و«غرفة نائب الرئيس». زوجة «الصنم» تركت من دون سند أو غطاء يحميها سوى كونها سيدة، ونحن لا نمد يدنا بسوء إلى السيدات. زوجة الرئيس لاتزال رابطة الجأش سعيدة الوجه باسمة الفم نحيفة الخصر ترتدي فساتينها البسيطة كبساطة السحاب، بينما «الصنم» خسر كل شيء: زوجته، أبناءه، وطنه، ماله الذي فاق المليارات، أحباءه، جيرانه. خسر قصوره، وسياراته المصفحة وسيوفه المذهبة بدم الشعب، وبنادقه التي ملأت الجو تلويثا، وجيشه الذي فاق الملايين، قواته المسلحة، الحرس الخاص، بدلاته، نهره الذي قطعه ثلاث مرات كما قال وليس شبيهه، أحفاده، الصنم خسر الدنيا ولم يربح نفسه.
صدام وبوش يلتقيان في الحذاء
المفارقة الكبرى هي أن «مصمم الاحذية الإيطالي فيتو ارتيولي كشف سرا جديدا وهو ان الاحذية هي الامر الوحيد المشترك بين صدام حسين وعدوه اللدود جورج بوش، فهما يصنعان احذيتهما عنده ويفضلان التصميم نفسه: احذية كلاسيكية مع رباطات. وقال إن صدام الذي كان يستورد الاحذية من عشرات المحلات، اقتنى السنة الماضية 12 زوجا من الاحذية من صنع المصمم الايطالي بقيمة ألف دولار لكل زوج أحذية» لم نحصل على معلومات بشأن قيمة أحذية «جورج بوش الابن» ولا نصدق قول مصمم الأحذية الإيطالي فـ «الرئيس بوش» يفتخر أيما افتخار بخرازي تكساس و«البوت» الذي يحتضن قدميه في الوقت الذي لا يفتخر «الصنم» بخرازي «بغداد» ناهيك عن خرازي «العراق».
الرئيس ربح كل شيء، الوطن، العائلة، السيارات، الرنج، وقد يخسر «البيت الأبيض» لكنه لم يصب العالم بالرعب إلا بدخوله بلاد «الصنم» للبحث عن «أسلحة الدمار الشامل»، وهي التي تم القبض عليها بعنوان «أسير الحرب».
بالأمس القريب رحل «الرئيس» من بلد «الصنم»، وظهر «الصنم» على شاشات التلفزة أمام قاضي التحقيق يحاجج في كل صغيرة وكبيرة! كانت عيناي وحدهما تبحثان عن صدقية مصمم الاحذية الايطالي فيتو ارتيولي، ياترى هل كان صادقا؟ أترك لكم الأمر.
* كاتب بحريني
العدد 667 - السبت 03 يوليو 2004م الموافق 15 جمادى الأولى 1425هـ