كشف استطلاع جرى حديثا في الولايات المتحدة أن الناخب الأميركي بات يميل في غالبيته إلى رفض الحرب على العراق. فالاستطلاع أشار إلى أن أكثر من 60 في المئة من الرأي العام يرى أنه كان بالإمكان تجنب حصول الحرب. وترى النسبة نفسها أن كلفة الحرب المالية والبشرية تتجاوز مردودها. هذا الميل الأميركي نحو رفض الحروب التي خاضتها إدارة البيت الأبيض خلال السنوات الثلاث الأخيرة تفسر إلى حد كبير محاولات الرئيس جورج بوش ممارسة سياسة «تبديل الأقنعة» وإجراء «ترتيبات في اللحظات الأخيرة» لإنقاذ ما يمكن إنقاذه لحماية سمعة إدارته من الانهيار قبل موعد الانتخابات الرئاسية.
تغير مزاج الرأي العام الأميركي وفتور حماسه من جهة التحاقه بحروب بوش يعطي فكرة عن دوافع سلوك الإدارة نهج التهدئة مع أوروبا وروسيا والكثير من الدول أصابها الضجر وملت من تصريحات المسئولين في البيت الأبيض عن مخاطر تهدد الأمن العالمي. فالإدارة الآن كما يبدو أنها في صدد إعادة النظر في بعض أوراق ملف حروبها ولكنها لم تتوصل بعد إلى قناعة تامة بالتخلي عن الملف برمته واستبداله بملف جديد يدعو إلى الاستقرار والتنمية ومساعدة العالم اقتصاديا بدلا من ضربه عسكريا. فالحروب مكلفة وزادت في الآونة الأخيرة من كراهية العالم للولايات المتحدة. بينما الاستقرار ورعاية التنمية أقل كلفة ويزيد من محبة الشعوب إلى أميركا ويعطي ثقة وطمأنينة لتوجهات واشنطن. بوش أنفق على حروبه أكثر من 220 مليارا من الدولارات وأوصى إدارته بإنفاق أكثر من 35 مليارا للمحافظة على ما ارتكبه من حماقات... وحتى الآن لم تثمر تلك الحروب سوى توسيع رقعة الأعداء ورفع منسوب الكراهية ضد أميركا في المنطقة العربية الإسلامية.
هذه الأموال الهائلة التي أنفقت على الحروب، مضافا إليها رفع موازنة الدفاع في السنوات الثلاث الأخيرة من 265 مليارا إلى 401 مليار دولار كان بالإمكان إنفاق نصفها أو ربعها على مشروعات تنمية في العالم الثالث وزيادة المعونات والمساعدات للشعوب الجائعة والمحتاجة... ولو فعل هذا الأمر لكانت أميركا كسبت حب العالم وربحت تأييده وتحسن الأمن وخفت المخاطر وتراجع الإرهاب وتقلص منسوب الكراهية للولايات المتحدة إلى أقل مستوياته. ولكن المشكلة أن السياسة لا تقودها كلمة «لو». «لو» فعل بوش و«لو» لم يفعل بوش. فالسياسة مصالح ومصالح إدارة بوش ارتبطت منذ لحظة ترشيحه قبل أربع سنوات إلى الرئاسة بمؤسسات التصنيع الحربي التي تبحث عن الحروب لتسويق منتوجاتها وحث الإدارة على رفع موازنة الدفاع للإنفاق على القطاع العسكري.
هذا القطاع كما هو معروف بات يسيطر في عهد بوش على مختلف حقول الإنتاج في أميركا وهو الآن في مقدمة القطار الذي يقود مختلف عربات الاقتصاد الأميركي. وهذا القطاع أيضا يتحالف مع «لوبيات» أخرى في طليعتها «لوبي» النفط الذي يحرض سياسيا وبشكل ثابت على الدول العربية والمسلمة ويدعو باستمرار إلى احتلال آبار النفط والسيطرة على المنابع وخطوط الإمداد والتصدير. القطاعان العسكري والنفطي يقودان السياسة الأميركية الآن ويقرران سلوك بوش ويحددان له قرارات إدارته. فالمصالح تقوده وليس كلمة «لو». فهذه الكلمة اخترعت لتبرير الاتجاهات المضادة للمواقف السياسية ولا قيمة لها في عالم لا يرغب كثيرا في تحقيق الرخاء للبشر. فهذه الكتل الاحتكارية لا تهمها مطالب العالم الآخر من عدالة ومساواة وتوزيع إنساني للثروة العالمية.
بوش الآن أمام مفترق طرق وقبل غرقه في حمى الانتخابات الرئاسية، فهو مطارد من الناخب الأميركي الذي يرى في حروبه خسائر مالية وبشرية لا فائدة منها ولا مردود اقتصاديا لها، وهو مطالب من كتلة التسلح والنفط بأن يستمر في سياسته التصعيدية التي لا قيمة لها سوى التورط بمزيد من الحروب والكثير من الكراهية. فمَن سيختار بوش، الأصوات الأميركية أم أصوات المدافع والقنابل؟ إنه سؤال
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 666 - الجمعة 02 يوليو 2004م الموافق 14 جمادى الأولى 1425هـ