يصعب على المرء فهم ما يجري في منطقتنا العربية وما تحمله أحداثها من معان بغير ما تعنيه من هروب من واقع المواجهة وتحمل المسئولية الفعلية في معارك لا تهم حاضرنا بقدر ما هي مؤشر لاتجاه سيرنا نحو مستقبلنا. وتتدافع مجموعات من كل الاتجاهات للخلط بين معاني العدل والمساواة والكرامة مع الحق في القمع والإرهاب والقهر. ويزيد من التعقيد المدافعات والخصومات التي تدعو إليها بعض فضائياتنا وأجهزتنا الإعلامية تحت عنوان «الرأي والرأي الآخر». التحليلات مشوهة وناقصة، والتقويم مبتسر، ووجهات النظر مختزلة ليست واضحة وضبابية وفيها الكثير من الغموض والالتفاف على المعاني، والفرار من واقع تفرضه طبيعة المعركة المصيرية التي تواجه دول منطقتنا العربية ودول مجلس التعاون الخليجي خصوصا. كان ذلك هو احساسي وأنا أشاهد معركة مفتعلة وتحريضا ضد الليبراليين العرب كانت محور برنامج «الاتجاه المعاكس»، في تلفزيون «الجزيرة».
على رأس قائمة أهداف هذه الحملات الجائرة ارباك خياراتنا ومرجعياتنا لأجل استبصار المستقبل ومن خلال تشويه فهم مجريات واقعنا اليومي. ونحن نواجه منذ انهيار ديكتاتورية البعث في بغداد العام الماضي عواصف كاسحة هدفها اقتلاع وجودنا وخصوصيتنا من الجذور وفرض استسلام تام. ولعل من أسوأ هذه الحملات العالية الصوت هو ان الخيارات أمامنا صارت محددة ولا فكاك منها. علينا ان نختار بين نهج وتقديرات وسياسات تحتمي بالتعصب وتسعى نحو أهدافها بالاستقطاب والإرهاب محتمية بقدسية الإسلام، أو نختار نهج وفكر وسياسات الدكتاتوريات العربية أو واقعا فكريا ثقافيا عقيما، لا فكاك لنا من هذا الثالوث المفروض، علينا ان نختار بينها، وأحلاها علقم. وبين الثالوث تتأرجح مجموعة مهمشة تترنم بقول الشاعر التونسي أبوالقاسم الشابي:
«إن الســـلام حقيقــة مكذوبــة
والعدل فلسفة اللهيب الخابي
لا عــدل إلا إن تعادلــت القــوى
وتواجَه الإرهــاب بالإرهـــاب»
ومن دون شك ان هذه الحملة الجائرة تريد لنا ان نستسلم لواقع بين سندان إرهاب الديكتاتوريات الحاكمة، وإرهاب الديكتاتوريات الدينية الطامحة للاحلال مكانها. ولكن على رغم كل ذلك، فإن قناعتنا الراسخة بأن مبادئنا الوطنية الفكرية الحرة تحوي حوامل حل تعقيدات قضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي في منطقة الخليج. فعدم وجود تيار ديمقراطي ليبرالي راسخ في الحياة العامة في عموم دول الخليج، قد كان من العوامل الرئيسية في تعثر التجربة الديمقراطية، والتي هي إحدى الحلقات في سلسلة الأزمات المتعاقبة التي تعرضت لها منطقتنا منذ مطلع العقد السابع من القرن الماضي، ولاتزال تتعرض لها. إن الفكر الليبرالي والتيار الليبرالي كانا حاضرين دوما في ثنايا التطورات الجارية، إلا ان ظروف المنافسات الايديولوجية، وضغوطات التصورات التقليدية، جعلتا من قيام تيار ليبرالي قوي أمرا صعبا، لذلك نعتقد ان أي حديث عن الإصلاح والتطور الديمقراطي لا يستقيم ولن يكتب له النجاح من دون الارتكاز على مرجعية وطنية حرة.
إننا نعتقد ان مهمة تصفية منابع الإرهاب الفكري والعنف السياسي واستعادة وترسيخ قيم الديمقراطية، هي واجب كل الجمعيات السياسية في مملكتنا الفتية في المقام الأول، وهي كذلك حقهم المقدس. ولما كانت مسألة الإصلاح والتحول الديمقراطي قضية تحتاج الى حلول مستقبلية ودائمة، وإلى مناخ مساعد مبني على الثقة، ولما كان مستقبل تطور تجربتنا وضمان استمرارها أمورا مصيرية يجب ان تخضع لإدارة كل المواطنين، فإن حلولها تأتي في إطار قضايا تطور النظام السياسي ليكون قادرا على استيعاب ما اختزنته تجربتا الانتخابات البلدية والبرلمانية.
إن التجربة البحرينية، ومثيلاتها كما في قطر وعمان والكويت، تؤكد ان أفضل أشكال التطوير عندنا، هي التي تستمد شرعيتها من المواطنين، وبهذا المعيار تظل ضرورية في سبيل تأسيس النظام الديمقراطي وتثبيته وتوسيع دائرة المشاركة في صنع القرار. لذلك ينطلق الفكر الليبرالي من يقين راسخ بأن النظام الديمقراطي المستقر لن يبني ولن تكتب له الديمومة من دون بناء مؤسسات سياسية مدنية مستقرة، وتأتي الجمعيات السياسية على رأس هذه المؤسسات. إن الملاحظ لأوضاعنا يجد ان الجمعيات مازالت تعاني من أمراض شتى، ليس أقلها ضعف المؤسسية وانعدام التوجهات الفكرية الواضحة والبرامج التي تخاطب القضايا اليومية للمواطن. وأدت هذه الحال الى ابعاد الكثير من المواطنات والمواطنين من حلبة العمل العام، احتجاجا وانكارا لواقع الممارسة السياسية.
ولتطوير الممارسة وإصلاح وتفعيل المؤسسات السياسية نعتقد ان الوقت قد حان لكي نراجع وضع القانون المنظم لدفع الجمعيات السياسية لضمان حقوق أعضاء الجمعيات وعموم المواطنين من أية ممارسات غير ديمقراطية وتغولات شمولية. يترافق ذلك مع تكوين جهة مستقلة تقف على تنفيذ القانون والحريات الديمقراطية، وتضمن التزام الجمعيات السياسية بالقانون الساري وخصوصا في مسائل الديمقراطية الداخلية والمحاسبة المالية وعدم احتواء برامجها وممارساتها على توجهات معادية للنظام الديمقراطي، ويتطلب ذلك أيضا تكوين جهة مراقبة استشارية - ممثلة للحقوق المدنية - تتلقى شكاوى المواطنات والمواطنين والمنظمات غير الحكومية تجاه أية تغولات على حقوقهم السياسية والمدنية، تتبع للبرلمان وسلطة السيادة وتدعم المواطنات والمواطنين والمنظمات غير الحكومية في تظلماتهم أمام الجهات التنفيذية والتشريعية والقضائية.
على المستوى الوطني، أو حتى القومي، هل يمكن ان نختلف بشأن قضايا أساسية تتعلق بأن إصلاح شأن بلادنا وأهلنا لا يتم إلا من خلال تقييم تجاربنا وتقويم مستوى مشاركة المواطنين في جميع مستويات شئونهم ومن خلال سيادة القانون واحترام حق الاختلاف؟ هل يمكن ان نتحدث عن التغيير أو الاصلاح من دون الاتفاق على حد أدنى لمقدار ما نواجهه من تحديات في إطار التشابك والتداخل بين مسألة دور الدين في السياسة ومعاني الديمقراطية ووضع المرأة والموقف الواضح من الإرهاب والعنف كوسائل للعمل السياسي؟ هل هناك أي شخص، كائنا ما كان، يختلف معنا في انه لكي نحيا حياة تليق بنا كمواطنين ومواطنات ان ذلك يرتبط بصيانة حقوقنا كإنسان ومواطن كامل الحقوق والواجبات؟ انني لا أعتقد ان هناك من يختلف في البحرين أو في دول الخليج الأخرى، أو أي مكان آخر. على ان ركائز الديمقراطية هي المساواة بين المواطنين وان تقرير حاضر ومستقبل مملكتنا الفتية يتحقق بأرجحية الرأي على الأقل في نطاق آلية البرلمان.
إن ما حاولنا ان نقوله في هذه العجالة هو ان بناء مملكة ديمقراطية مدنية ممكن. مملكة قائمة على قاعدة من ضمان الحريات الفردية والمسئولية والمجتمع، وضمان أسس العدالة الاجتماعية. ويقوم ذلك وفق قناعة راسخة بأن العدالة الاجتماعية أصبحت واجبا يفرضه تطور المجتمعات ومبادئ التعايش الإنساني السلمي القائم على التضامن والمؤازرة واحترام كرامة الإنسان.
نائب رئيس جمعية الفكر الوطني الحر
العدد 662 - الإثنين 28 يونيو 2004م الموافق 10 جمادى الأولى 1425هـ