العدد 661 - الأحد 27 يونيو 2004م الموافق 09 جمادى الأولى 1425هـ

حوار بين مفكرين عرب وأكراد في 1992 حول الفيدرالية والديمقراطية وحقوق الإنسان (1 من 3)

منصور الجمري editor [at] alwasatnews.com

رئيس التحرير

في 17 و18 أكتوبر/ تشرين الأول 1992، وعندما كنت عضوا في اللجنة التنفيذية للمنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا، شاركت في تنظيم لقاء نوعي بين مفكرين وناشطين عرب وأكراد. الندوة ناقشت أفكارا مهمة نعيشها هذه الأيام، وكنت قد غطيت تلك الندوة ونشرتها في نشرة «الضمير» التي كانت تصدرها المنظمة في لندن، كما نشرتها في وسائل إعلامية أخرى آنذاك. ولأن المداولات تهمنا هذه الأيام، فأعيد نشرها بالنص كما صدرت في العام 1992 للاستفادة.

بدعوة من المنظمتين العربية والكردية لحقوق الإنسان عقد في لندن بتاريخ 17 و18 أكتوبر/ تشرين الأول 1992 ملتقى فكري للحوار العربي - الكردي حضره نحو 50 مفكرا ومثقفا عربيا وكرديا بينهم قادة سياسيون وكتاب وباحثون ورجال دولة سابقون من شتى الاتجاهات الاسلامية والليبرالية والديمقراطية والقومية والماركسية. واستهدف الحوار إبراز الجوانب الفكرية والدستورية للقضية الكردية والاقليات الأخرى في الوطن العربي لاندراج هذه القضية كجزء من حقوق الإنسان الجماعية التي تضمنتها اللوائح والوثائق الدولية المختلفة.
وقد امتاز الحوار بالموضوعية والصراحة في تناول القضايا الحساسة والمصيرية التي تمر بها شعوب المنطقة في ظل الظروف والتطورات الراهنة.
افتتح الحوار رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان عبدالحسين شعبان - فرع بريطانيا، مشيرا إلى أهمية الانتخابات التي جرت في كردستان العراق وقيام حكومة كردية في شماله، وإعلان المجلس الوطني لكردستان العراق للقرار الصادر بتاريخ 4 أكتوبر 1992 عن تحديد العلاقة القانونية مع السلطة المركزية واختيار المركز السياسي لاقليم كردستان وشعبه انطلاقا من حق تقرير المصير على أساس الاتحاد الفيدرالي ضمن عراق ديمقراطي برلماني يؤمن بتعدد الاحزاب ويخدم حقوق الإنسان المعترف بها في العهود والمواثيق الدولية. وتساءل شعبان عن المقومات التي اعتمدها الإعلان الكردي في ظل النظام العالمي الجديد وكيفية التصدي للمشكلة من زاوية فكرية ودستورية، مؤكدا أن اللقاء لا يستهدف اصدار قرارات بقدر ما هو حوار بقلب حار وعقل بارد.

وقدم أول بحث للقانوني العراقي الكبير حسن الجلبي، شرح فيه المفاهيم والمقومات والقضايا من الناحية العلمية، قائلا: ان الفيدرالية أصبحت الشغل الشاغل للمعنيين بقضية العراق ومستقبل المنطقة. تشهد الحركة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في التاريخ ظاهرتين، ظاهرة الاتحاد بين الوحدات السياسية وظاهرة الاستقلال لكل وحدة عن الأخرى. ونرى ان الحركة تتجه وفي كل الاوقات تارة إلى الاتحاد بين الوحدات طلبا للاقتدار على مواجهة المشكلات وحلها وطورا الانفصال طلبا للحرية والخلاص من السلطة المركزية. ونجد ان مقومات أساسية مثل العرق واللغة والاقتصاد والتاريخ والدين تلعب دورا أساسيا في هذا الصدد: ولكنني (والحديث للجلبي) ساركز على مقومين وهما وحدة السلطة ووحدة الإرادة في العيش المشترك. تتمثل الأولى في رغبة من بيدهم الحكم والدول التي تعمل على احياء التاريخ القديم في تأسيس الدول والاوطان ذات الامجاد العظيمة. ويسعى هذا الاتجاه لايجاد دولة عظيمة بصرف النظر عما اذا كان اطراف هذا الكيان قد قبلوا هذا ام لا. وهذا يعود إلى يوم ان ظهرت الدولة الحديثة بعد انحلال سلطة البابا والامبراطوريات في القرن الخامس عشر والسادس عشر عندما طلع القانونيون مثل ماكيافيللي، روسو وغيرهما واستطاعوا ان يدخلوا للفقه القانوني مفهوم السيادة المطلقة (خضوع الناس للسلطان والملك وان ما يريده الملك يريده القانون) في ظل دولة واحدة.
وعرف الفكر السياسي الذي انجبته الثورة الفرنسية العام 1789 فكرة السلطة وتكوين القومية ليس عن سلطان الحاكم ونما نتاج إرادات أولئك الذين يعيشون في ظلها (حق تقرير المصير). ولذلك لم يستطع حكام الثورة ضم «السيفوا» الا بالاستفتاء والارادة الشعبية اذ لا يمكن سلخ اقليم او ضم آخر إلا عن طريق الرأي الحر.
وبعد الحرب العالمية الأولى أخذت عصبة الأمم المتحدة هذا الاتجاه الجديد بنظر الاعتبار وعلقت مصير بعض الاقاليم على ضرورة العودة للاستفتاء لمعرفة رأي السكان والشعوب ضمن ما توزع من مناطق ودول.
وبعد الحرب العالمية الثانية اعتبرت منظمة الأمم المتحدة هذا العصر عصر حقوق الإنسان وضمنت ذلك في ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر العام 1948.
وهكذا أصبح هذا العصر عصر إرادة العيش المشترك وليس وحدة السلطة أو حتى الوحدات الأخرى، وثبتت دول على رغم تباين لغاتها وقومياتها امكان العيش مع بعضها في ظل إرادة العيش المشترك. بينما اثبت ما حصل في الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا ان هذه الشعوب رأت مصالحها الحيوية واعتباراتها السياسية في العيش بانفصال في كيانات خاصة.

ثم تحدث من الجانب الكردي الصحافي كامران قره داغي قائلا: لقد اثبت الأكراد ومن خلال الطريقة التي تعاملوا بها في ظل ما يسمى بالنظام الدولي الجديد انهم اكثر الشعوب تحسسا بأهمية انتهاء الحرب الباردة، واعتبروا ما حدث فرصة تاريخية لابد ان يستفيدوا منها ولا يضيعوها. وعكست ديباجة قرار المجلس الوطني لكردستان العراق بشأن الفيدرالية هذا الادراك والفهم بالتقاط الاتجاهات الرئيسية في النظام الدولي الجديد واخراج القضية الكردية إلى المسرح الدولي. لقد اتخذت البشرية الديمقراطية في الحكم والادارة لتشييد دعائم حقوق الإنسان عبر احترام إرادة الشعب واقامة سلطة القانون وفصل السلطات الثلاث. ومن حسن الحظ ان الاكراد عموما لم يدخلوا في جدل داخلي عقيم مثل التساؤلات: هل هذا النظام الدولي أسوأ؟ أو هل أنه مؤامرة عالمية جديدة؟ أو هل انه مواجهة الغرب للإسلام؟ أو غيرها من الجدالات التي سيطرت على كثير من الاطروحات في العالم الثالث. استطاع الاكراد استعمال هذه الظروف لمصلحتهم واخراج قضيتهم من عزلة ضيقة في الدولة العراقية وفرضها قضية دولية بحيث أصبح مستحيلا ان يتجاهلها المجتمع الدولي.
ففي العام 1974 هجّرت الحكومة العراقية ربع مليون كردي إلى المناطق التي سيطرت عليها القيادة الكردية وحدثت مأساة حقيقية داخل كردستان. اما العام 1991 فقد تحولت المشكلة إلى قضية دولية. الشيء المهم قرار 688 الصادر عن الأمم المتحدة، اذ استطاعت القيادة الكردية ان تبني على هذا القرار، واثبت السلوك الذي سلكته القيادة التواصل بينها وبين المستجدات الدولية. وعندما طرح الرئيس التركي فكرة حماية الاكراد ايده رئيس وزراء بريطانيا وتطور الأمر إلى الوضع القائم حاليا. وأيضا كانت المفاوضات مع الحكومة العراقية تشير إلى نوع من التواصل مع الوضع الدولي.
والمسألة التي أوضحها تبني البرلمان الكردي للفيدرالية هو ان القضية ليست تعايشا بين أرض وأرض وانما بين شعوب. كما أوضح التناقض بين الوضع الاجتماعي والاثني والمذهبي وبين تركيبة النظام العراقي. من يحق له ان يقرر مصير الاكراد؟ هل الحق للعراقيين كلهم؟ هل هو الدستور العراقي الحالي؟ ام ان الاكراد هم انفسهم يقررون مصيرهم؟ وفي مداخلة للصحافي اللبناني حازم صاغية اشار إلى أن هناك سجالا ظاهرا ومستترا بين العرب والاكراد وهناك أسئلة يطرحها العرب على الاكراد. ان الاكراد اغتنموا الظرف الدولي، والبعض يتهمهم باقامة علاقات مع «إسرائيل»؟ لابد ان نسأل الاكثرية العربية عن المشكلة لأن مشكلة الاكراد انهم اذا نظروا بين المحيط والخليج لا يجدون لهم نموذجا واحدا يطمئنون له وهناك حالات لا تدعو للاطمئنان وانما للحذر. نسأل الاكثرية: هل هناك اتجاه آخر يعتمد على التسامح والتعددية؟

وتحدث أحمد غراب (من مصر) قائلا ان الايديولوجيات القومية تقوم على الصراعات التي استغلها المستبدون في العراق. والاسلام رحمة لا ينظر للإنسان باعتبار قوميته. واجبنا تلافي التفرقة على الأساس الاثني إلى الاخوة في اطار اكبر. نحن نعلم ان الاسلام استغل استغلالا. ولكن عندما اقيمت حكومة اسلامية في إيران لم يقل احد انها حركة ايرانية او فارسية وهذا جعل المسلمين يتعاطفون معها على رغم انهم من دول مختلفة. احترام الحقوق لا يأتي عن طريق النظام الدولي الجديد وما حدث في الجزائر عندما انتخب العرب والبربر جبهة الانقاذ رفضت النتيجة وسحقت. نريد ديمقراطية لكل إنسان وكل اقلية لها حقوق يضمنها الدين الاسلامي.
عبدالكريم الازري (وزير عراقي سابق): لقد اقر مؤتمر فيينا حق تقرير المصير للاكراد على ان لا يخالف هذا الحق الانفصال عن الدولة العراقية. وما اتخذه المجلس الوطني عبر قرار الفيدرالية حلا للقضية الكردية تسبب في ردود فعل قوية من بعض الجهات ناتجة عن عدم وضوح الفكرة. لقد كان الحكم الذاتي يعتبر هبة ومنحة من الحكومة العراقية للشعب الكردي يمارس فيها بعض الصلاحيات والاختصاصات.

محمود عثمان (احد القادة الاكراد): لم تعترف بحقوق الاكراد اية دولة من الدول، ولم يعان شعب مثل ما عانينا. وكنت حاضرا كعضو قيادة في الجبهة الكردستانية في كل المداولات والقضايا بضمنها قرار الفيدرالية الاخير. لقد عانى الشعب الكردي من وضعه الجغرافي ومحاصرته من قبل دول كبيرة ولم تكن له قرارات حرة. وانما كل قرار كان لابد من حساب ما تقبله او ترفضه الدول المجاورة بعد ان قسم الاستعمار الشعب الكردي لعدة اقسام. كما لم تشأ أي قوة دولية الخروج على مصالح الدولة الاقليمية. فأميركا لم تكن توافق على شيء اذا كانت تركيا او إيران او السعودية ضد ذلك، وعلى رغم ان الأميركيين ضد إيران الا انهم لا يريدون ازعاجها كما قالوا ذلك لنا.
في العام 1975 كنا نتصور خاطئين ان إيران لا يمكن ان تتخلى عن اكراد العراق لان اميركا كانت على الخط. وثبت بعد ذلك ان أميركا في شخص كيسنجر هي التي خططت اتفاق الجزائر، والسوفيات ايدوا صدام من جانب آخر. وعندما كتب المرحوم البرازاني إلى كيسنجر يخاطبه بمساعدة الاكراد من الناحية الإنسانية على الأقل، أجاب ان الاتفاق كان بين طرفين وقد يضر بطرف ثالث، وهذه سياسة ليست فيها اعتبارات اخلاقية.

اما الوضع الدولي الجديد وبعد انتهاء الحرب الباردة وحماقات صدام الذي لو لم يدخل الكويت لما كان بإمكان الشعب الكردي تحقيق ما حصل عليه، ليس هدف الشعب الكردي تفتيت العراق ولكن بسبب ما تعرضنا له من قصف كيماوي ولم يرتفع صوت عربي واحد، نريد ثلاثة ضمانات: ضمانات كردية: ان نبقى موحدين سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وعسكريا، وضمانات ديمقراطية داخل العراق، وضمانات دولية من أجل التدخل تحت ظل الأمم المتحدة. ومن أجل ذلك طرحنا مشروع الفيدرالية بعد ان عرضناه على لجنة العمل المشترك والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، لكي نحصل على اتفاق جماعي بهذا الشأن ولكي نتأكد من الحصول على حقوقنا في المستقبل.
ثم تحدث الوزير العراقي السابق عامر عبدالله وقدم بحثا مستفيضا عن مشروع العراق الفيدرالي قال فيه: ان تقرير المصير ليس حقا وانما مبدأ قبل ان تدونه مواثيق حقوق الإنسان وهو مبدأ إنساني وحضاري. وقد كان ضمن برنامج البلاشفة في ثورة أكتوبر 1917 الا انهم لم يترجموا هذا الحق للواقع. والفيدرالية تعني المشاركة السياسية والاجتماعية في السلطة من خلال رابطة نوعية بين اقوام وشعوب وتكوينات مختلفة من أصل لغات وأديان مختلفة. وهو نظام يوحد الكيانات المنفصلة في امة واحدة ضمن اطار سياسي واحد مع احتفاظ الكيانات بهوياتها من حيث التكوين السكاني واللغة والثقافة والدين إلى جانب مشاركتها في صوغ القوانين المحلية والمركزية.
والفيدرالية توليف بين متناقضات، بين الاستقلالية والمركزية، بين التكامل والتجزيء، كما هو الحال في سويسرا، وألمانيا، وأميركا، وكندا. ويعني التوفيق بين الاتحاد اللامركزية بين الحكومات المحلية والفيدرالية من خلال المساواة بين جميع الاطراف واستبعاد نزعة الهيمنة والاستفراد من الحكومة المركزية واستبعاد مبدأ المنحة والمنة والعمل بمبدأ التقسيم الوظيفي للسلطة في صوغ واقرار دستور الاتحاد الذي يحدد سلطات ووظائف الادارة المركزية والمحلية. بعد ذلك طرح عامر عبدالله مشروعا مفصلا للدولة العراقية الفيدرالية ضمنه خبراته السابقة في المناصب الحكومية.
ثم جاء دور المفكر الكردي عمر شيخموس الذي تحدث عن القضايا القومية في الوطن العربي والشرق الأوسط، وبدأ حديثه بتعريف «الوطن العربي» قائلا انه تعبير عن الوطن المنشود كهدف منذ اوائل القرن العشرين وبشكل أوضح منذ الاربعينات لحركة سياسية هي الحركة القومية العربية التوحيدية، وليس عن وطن واقعي موجود لجميع الدول التي تتكلم اللغة العربية أو الاعضاء في الجامعة العربية أو المجتمعات التي تنتمي إلى الهوية والثقافة اللامة. وان هذه الحركة قد اختبرت حديثا بزات فكرية عنيفة وازمة شديدة نتيجة فشل التجربة الوحدوية بين مصر وسورية العام 1961 ونكسة يونيو/ حزيران 1967 والانقسام الجذري خلال الحرب العراقية - الإيرانية (1980 - 1988) وخلال الحرب الخليجية الثانية العام 1991، نتيجة احتلال وضم ونهب العراق لدولة الكويت - الجارة العربية المساندة إلى العراق خلال الحرب الخليجية الأولى والعضوة في جامعة الدول العربية.

(يتبع ...)
 

إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"

العدد 661 - الأحد 27 يونيو 2004م الموافق 09 جمادى الأولى 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً