لا شك في أن الجدل المفتوح في الشارع البحريني حول المجلس النيابي هو بحد ذاته علامة حضارية ومؤشر قوي عن مسار المشروع الاصلاحي البحريني. فمثل هذا الجدل لم يكن متاحا بهذه الدرجة والعلنية في العقود السابقة، وهذا المناخ يؤكد لنا وجود بعض الثوابت التي ارتكز عليها النظام السياسي في البحرين ونوهت بها المعارضة البحرينية ولم يفرط فيها أي من الطرفين على رغم هذا الاختلاف في أول المطاف. ويبدو أن خيار المقاطعة ركز على الجدل التشريعي والحقوقي واستنتج صعوبة إمكان التعديل على الدستور أو الخروج بتشريعات من داخل المجلس بسبب اشتراك المجلس المعين (الشورى) معه في عملية التشريع، بينما ركز خيار المشاركة في الانتخابات على الأبعاد الاقتصادية والسياسية وأثرها في تحقيق انجازات اقتصادية وسياسية للوطن وللمواطنين. الخياران كلاهما كانت لهما مبرراتهما المقنعة والمنطقية. خيار المقاطعة يرى أن عملية التشريع هي في كفة المعينين (مجلس الشورى) إذ يتم ترجيح كفة رئيس مجلس الشورى (كونه رئيس المجلس الوطني أيضا) إذا تساوت أصوات المعينين مع المنتخبين في اجتماعهم المشترك تحت قبة المجلس الوطني، ما يؤدي إلى الإخلال بمبدأ فصل السلطات، وانتقد أيضا أسلوب توزيع الدوائر الانتخابية واعتبرها طائفية أو عشائرية وغير عادلة واعتبر دستور 2002 دستور منحة وليس دستورا معدلا ورفض التعديلات الجديدة التي اضيفت إليه.
خيار المشاركة رآى ضرورة المشاركة فرصة ذهبية لدخول حقبة جديدة بمواصفات متطورة والتخلص من سلبيات الحقبة القديمة والاستفادة من الحصانة البرلمانية والاعلام الرسمي والمساءلة والمحاسبة للمسئولين، ويرى اصحاب هذا الخيار أن الفترة المقبلة ستكون فرصة لبناء جسور الثقة ما بين السلطة والشعب والعمل لبناء مستقبل أفضل. ويرون أيضا أن الدولة والمجلس الوطني بغرفتيه لهما هموم ومصالح يشتركان فيها لمعالجة قائمة طويلة من الملفات التي تهم الوطن والمواطنين (مثل: القضاء على الفساد الاداري والمحسوبية والمحاباة، وخلق الفرص للمواطنين، وبناء المساكن والمدن والقرى، ومعالجة ملف التجنيس والتوظيف في المؤسسات الأمنية والدفاعية، والقضاء على الطائفية، وتعزيز مبدأ المواطنة، وتطوير الشفافية، واحترام حقوق الانسان، ورفع سقف الحريات العامة، وجذب الاستثمار واستعادة الاموال المهاجرة، وتأسيس النقابات، وتطوير المجتمع المدني بعد أن كان مهمشا، وتفعيل دور القطاع الخاص في التنمية... الخ). وهي ملفات مهمة وحيوية يستهدفها المواطن والدولة في الوقت نفسه وهي كفيلة بتحقيق الاستقرار الاقتصادي والسياسي للجميع ولا يختلف حولها اثنان وخصوصا المجلسان، بحسب رأي مؤيدي المشاركة، وستغنينا عن الاختلاف حول أي تشريعات أخرى.
خيار المقاطعة، في الوقت الذي ينوه بالمشروع الاصلاحي، فإنه يشكك في هذا الرأي ويفنده معتمدا على «الجدل الدستوري» وصعوبة معالجة أي ملف أو تعديل بسبب تعدد الأقفال الوقائية التي أحكمت بشكل جيد في الدستور الجديد، وحتى لو اخترقت كل هذه الاقفال وعبرت نفق المجلس الوطني فإنها تصطدم بالوقاء النهائي متمثلا في من يمتلك حق إصدار التشريع. بل ان البعض يشكك في النوايا السياسية ويتبنى نظرية المؤامرة ويرى أنها بدأت مع بداية الميثاق الوطني الذي انتهى بدستور جديد مختلف عن دستور 1973 وبعيدا عن المبادئ التي صوّت عليها الشعب في الميثاق، وينتقد التعديلات الدستورية التي قامت بها لجنة وزارية وتم تطبيقها قبل أن تحصل على صيغة التعاقد ما بين ممثلي الشعب والدولة ويطالب بمراجعتها قبل تطبيقها ويشير أيضا إلى أن مجلس الشورى لم يعد مجلسا للشورى بل اصبح مجلسا تشريعيا تماما مثل المجلس النيابي ولا يتميز عنه إلا في حق المحاسبة والمساءلة للوزراء.
الرأي الرسمي لم يكن غائبا عن هذا الجدل. فهو يرى أن الميثاق منح الحاكم تفويضا لإجراء التعديلات الدستورية وانها جاءت بحسب روح الميثاق، وأن فرصة التعديل على التعديلات الدستورية الحالية مسألة ممكنة من خلال المجلس الوطني بغرفتيه والآليات المرسومة في الدستور. ويرى أيضا أهمية مشاركة الجميع في الانتخابات النيابية ويؤكد أن الاعضاء الذين سيتم تعيينهم في مجلس الشورى سيكونون من خيرة أبناء الوطن وأن هذا التعيين كان ضروريا لخلق التوازن وإعطاء فرص للقوى الاجتماعية والمهنية الأخرى التي قد لا تحظى بالتمثيل عبر العملية الانتخابية كالمرأة والكفاءات من التكنوقراط من مختلف القطاعات الاقتصادية والاجتماعية. ويرى أيضا أن المشروع الاصلاحي وتطوره مرهون بالمشاركة الشعبية من كل قوى المجتمع، ودعا الجميع إلى المشاركة وعدم التخلف عن هذا المشروع. ويبدو أن مؤيدي المشاركة في وفاق شبه كامل مع وجهة النظر الرسمية (مع بعض الملاحظات والتحفظات المثارة من بعض الرموز الحقوقية البارزة التي ترشحت للانتخابات النيابية).
بين تيار المقاطعة وتيار المشاركة هناك تيار ثالث التزم الصمت... وفي مقدمته بعض النخب السياسية والدينية والتجارية والمثقفة والمستقلين وقطاع عريض من المجتمع يكمن تصنيفهم جميعا تحت ما يسمى بالغالبية الصامتة. وفي الوقت الذي حصل تيار المقاطعة على تأييد المعارضة متمثلة في الجمعيات السياسية الأربع التي تبنت موقف المقاطعة واعتمدت على وسائلها ومواردها الشعبية المتواضعة للإعلان والتعبير عن موقفها، فإن تيار المشاركة حظي بالتأييد الرسمي مستفيدا من موارده الغنية واعلامه الواسع في الإذاعة والتلفزيون فضلا عن الصحافة المحلية التي «تعاطف» معظمها مع تيار المشاركة.
اختلط الحابل بالنابل في هذا المشهد السياسي الجديد في البحرين... مرشحون أكفاء وبارزون جنبا إلى جنب مع مرشحين لم يعرف أحد عنهم أي شيء ... بعضها وجوه جديدة لا تعكس الوجه الحضاري للبحرين وريادتها ومخزونها الثقافي والسياسي، وحظوظها للفوز في ظل هذا المشهد الغامض، الذي غاب عنه اللاعبون الكبار، تقابلها وجوه مخضرمة وكفوءة، ونحن في البحرين بحاجة إلى مثلها، إلا أن حظوظها متواضعة في معظم الحالات إما بسبب الحصار الذي فرضته عليها تقسيمات الدوائر الانتخابية أو تخلف تيار ملحوظ عن المشاركة، فضلا عن عدم وضوح موقف التيار الصامت. المشهد في صورته الاجمالية مزدحم بالجدل والمشروعات والتصريحات والبيانات والندوات والبرامج الانتخابية والمشاهد المضحكة المبكية هنا وهناك... ويبدو لي أن الجميع خسر في هذه المرحلة الانتقالية الحساسة... الشعب والمعارضة والحكومة كلهم خسروا... خسروا لأن هذا القطار سينطلق من دون أهم رموزه القوية متوجها نحو حقبة اختلطت فيها الحسرات بالأفراح خصوصا في الأرياف... بعد أن كانت جميعها مفعمة بالفرح والأمل والالتفاف... ولا نعرف لماذا دخلنا جميعا في دائرة الاختلاف وفي أول المطاف!! وهل صحيح أن ما هو آت أسوأ مما فات... أم أفضل مما فات؟
العدد 66 - الأحد 10 نوفمبر 2002م الموافق 05 رمضان 1423هـ