إن التحول من مجتمع يقوم على الإقطاع، والغلبة للأقوى، إلى مجتمع قائم على المؤسسات والقانون، وحقوق الإنسان، وحماية مصدر رزقه ومعيشته؛ لا يمكن فقط في القوانين ذاتها بصفتها أشياء مادية، بقدر ما يكون هذا التحول في الإرادة المطبقة لتلك القوانين، وفي تغيير الذهنية المتلبدة بالجشع وحب المال والأنا، والتحرر تباعا من النزعات الأرستقراطية. ومنذ الأزل كان «صراع اللقمة» هو المحرك الأساسي ويستفرد بالنصيب الأكبر في الدافعية نحو الحركات المطلبية والاحتجاجية الثورية.
وفي تاريخ البحرين الحديث كانت أول حركة احتجاجية ومطلبية في بدايات القرن العشرين، وهي انتفاضة الغواصين، وكانت تعبر عن رفضها (نظام التسقام)، وهو نظام القروض التي تمنح للبحارة قبل موسم الغوص، هذا النظام الذي يكرس العبودية والإقطاع في المجتمع، وفي تلك الحركة تجلت في الآفاق تضحيات غالية من البحارة.
وكان عبدالوهاب الجلاهمة رحمه الله، أحد الذين حملوا مطالب البحارة العادلة، وتقدم بتلك المطالب إلى المستشار، وما كان من الأخير إلا أن أودع (الجلاهمة ورفاقه) سجن المنامة (مركز شرطة باب البحرين)، حينها ثارت ثائرة البحارة، وهبوا للدفاع عن من تكفلوا بحمل مطالبهم الشرعية العادلة، واتجهوا إلى المنامة وفكوا أسر قادتهم؛ إلا أن السلطات في ذلك الوقت استخدمت قوى الأمن وسياراتهم في محاولة لإخماد صوت البحارة، واستشهد في تلك (الواقعة) اثنان من البحارة برصاصات الشرطة البنجابية الذين كانت تستجلبهم السلطات في ذلك الوقت - وتم صلب عدد آخر من البحارة على الأعواد في المنامة.
اليوم، ونحن في دولة المؤسسات والقانون، وفي عصر الدولة الحديثة، غير الإقطاعية، هل يستحق البحارة منا ذلك الغبن والإهمال؟ فعن أية تنمية شاملة نتحدث؟ وأي إصلاح نطالب به يجب أن يشمل الجميع؛ وعلى رأسهم البحار والفلاح؛ هؤلاء هم الأساس لأية نهضة، وهم أصحاب الفضل على أبناء هذه الجزيرة بعد الله، وهم من كابد التعب والضنك من أجل أن ننعم بكل ما لدينا اليوم. فلماذا البحارة ينتظرون مجرد تفعيل قانون؟! وبسبب من يتم تجميده؟ وهل ننتظر من البحارة أن يثوروا على هذا الإقطاع الذي جدد ثوبه في وجوه «مافيا البحر»؟ هذا الظلم البيّن يستلب الرزق، ويدمر البيئة البحرية ويقضي على المخزون الغذائي، بالشباك القاعية أو طريقة الصيد (الهيالي) أو (الكوفة) أو الشباك ذات الثلاث طبقات (الشباك الإسرائيلية) التي لا تدع سمكة صغيرة أو كبيرة إلا واصطادتها؛ أو بما يفعله هؤلاء العمال الآسيويون، والذين يجوبون البحر بقعة بقعة، ولا يذرون من أحيائه كبيرا أو صغيرا إلا انتشلته شباكهم.
إن تطبيق قانون النوخذة البحريني، والذي هو من دون الحق، فإن الحق أن يكون مالك السفينة هو النوخذة، وليس في أن يكون مالك السفينة يتملك محطات معالجة مشتقات النفط، وشركات كبيرة، أو يصدر مخزون البحرين للخارج، فبأي منطق يتكلم زعماء المافيا هؤلاء!؟ وعن أي أفراد يدافعون؟ قانون النوخذة البحريني سيوفر المئات من فرص العمل في جانب منه، وهذا القانون تم تجميده بعد ضغوطات «الهوامير الكبيرة» و«مافياوات» البحر.
ونسأل: هل هذه البحرين التي نريدها مملكة دستورية، قائمة على القانون، وقوانين البلد (مجمدة، في ثلاجات التصدير الكبيرة)؟! فلا مجال لأي بحريني للفخر بأنه يعيش في دولة القانون والمؤسسات، في ظل هذا التجميد (أوالتثليج) للقوانين
إقرأ أيضا لـ "محمد العثمان"العدد 657 - الأربعاء 23 يونيو 2004م الموافق 05 جمادى الأولى 1425هـ