«مهما كانت المتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي ستحدث في المستقبل فإن ما لا يمكن تصوره مجيء وقت لا يوجد فيه أولئك الذين يكرسون وقتهم لمعرفة ما يحدث لنقل المعلومات إلى الآخرين مع شرح مناسب لمعنى ومغزى هذه المعلومات».
ماكدوغال كورتيس
يرى ارسطو في رسالته الثالثة في الخطابة أن على المرء حين يتكلم أن يراعي وسائل الإقناع المؤثرة في المستمع وان يهتم بالأسلوب واللغة في العرض، وان يرتب حديثه وأفكاره ومعلوماته وفقا لمقتضيات اللغة التي يكتب بها - أيا كانت اللغة التي يتحدث بها. ويحدد أرسطو هذه الأطر في مقولته المشهورة «لا يكفي أن يعرف المرء ما ينبغي أن يقال، بل يجب أن يقوله كما ينبغي»، فهل نستطيع أن نلتفت في هذه العجالة تجاه الصحافة الأميركية وأداة الإعلام الأميركية لنقرأ دساتيرها وبعض لمحات عن مواثيق شرفها، لعل الصورة السيئة التي توصم بها الصحافة والإعلام الأميركي مدعاة قلق للباحث في أن يعاكس التيار بأن يذكر بإسهاب ضخامة هذه المؤسسة وقدراتها وأهميتها العالمية، فيكون ممن يطلق عليهم «خالف تعرف» أو أن يهادن مجتمعه فيكون الباحث كالقاضي الذي أعلن حكمه على المتهم قبل أن يقرأ أولى أوراق قضيته .
أيا ما كانت الرؤية التقويمية أو التحليلية للإعلام الأميركي سلبا أو إيجابا، فإنه من الصعب أن نتجاوز أن المؤسسة الإعلامية الأميركية سواء بشقها التقني أو المعرفي لعبت دورا مؤثرا على صعيد تطور ونهوض المفاهيم الإعلامية.
الإعلام الأميركي لعب دورا مهما في صوغ روح إعلامية حديثة ومتطورة وذات أبعاد خاصة، إذ كانت تلك المواثيق والتشريعات الخاصة التي أنتجتها مؤسسة الإعلام الأميركية تحتوي من الديناميكية والقدرة على التطور ما كان سببا رئيسا في أن يكون الإعلام الأميركي أداة سياسية كبرى، بمعنى أن هذا الإعلام كان إعلاما سلطويا (بمفهوم الصحافة: السلطة الرابعة).
كان ومازال الإعلام الأميركي متجاوزا للمفهوم القديم عن الإعلام كوسيلة إخبارية، بل هو ممتد بفضل قوة قوانينه واتساع حريات إعلامييه إلى أن يكون أداة ضغط مؤثرة للرأي العام، فلا يكون لمتخذي القرار في البيت الأبيض كامل الحرية في قراراتهم من دون الاهتمام بما سيكون عليه رد فعل هذه الآلة الإعلامية. وهل لنا أن نتجاوز هذا الحد إلى أن نزعم أن الإعلام الأميركي يتحكم في كثير من المرات في القرار السياسي، بمعنى أنه آلة لإنتاج الرأي السياسي الأميركي.
تدلل على ذلك البحوث الإعلامية التي أجريت في الولايات المتحدة «دراسة public opinion quarterly» لمعرفة عادات القراء من كبار الشخصيات القيادية السياسية والاقتصادية، التي أظهرت أن الكثير من الصحف والمجلات الأميركية تعتبر بالنسبة إلى هؤلاء القادة بمثابة مصادر معلومات يأخذون بها في تشكيل قراراتهم العامة، وانهم يهتمون بتحليلاتها، وحتى الآراء الخاصة ببعض الصحافيين ممن عرف عنهم تأثيرهم على الرأي العام هناك.
توطئة تاريخية
الإنجليز بدأو الصحافة في أميركا الشمالية فكانت أول صحيفة أميركية في العام 1690 في بوسطن، وكانت صورة الصحافة الأميركية تابعة للصورة الإنجليزية الرائدة آنذاك، حتى انه من المثير ان تبقى بعض الشراكات الإعلامية قائمة حتى يومنا الحاضر. أما أول صحيفة حقيقية فكانت «صحيفة بنسلفانيا» التي أصدرها الصحافي الشهير بنيامين فرانكلين العام 1728 في فيلاديفيا، ويعتبر العام 1791 من أهم أعوام الصحافة الأميركية إذ ألزم الدستور الأول لأميركا الكونغرس بعدم إصدار أي قانون يمنع حرية التعبير أو الصحافة.
ويبلغ متوسط عدد الصفحات في الصحف الأميركية 53 صفحة، ويستهلك القارئ الأميركي ما يزيد عن 100 كلغ من ورق الصحف سنويا، وينفق الأميركيون سنويا ما يزيد على أربعة مليارات ونصف من الدولارات لشراء الصحف والمجلات، في استهلاك يعتبر ضمن النسب الأكثر ارتفاعا عالميا.
لابد من ملاحظة أن الصحافة في الولايات المتحدة متحكم بها عبر بعض التجمعات الإعلامية الكبرى. وتتنوع الملكية العامة لهذه التجمعات الاستثمارية بين أميركية بحتة أو أميركية بريطانية، وبين شركات مساهمة أو حتى شركات تدار بالأسهم: ومن أهم هذه التجمعات:
Chicago tribune newspaper
New house newspaper
e. w. Scripps co.
Hearst newspaper
Gannett newspaper
Thomson newspaper
كما تشمل الصحف الصادرة في الولايات المتحدة صحفا موجهة للاقليات بلغات مختلفة منها: العربية والإيطالية والإسبانية والصينية والعبرية وحتى الروسية.
وثيقة 1973
تأتي وثيقة 1973 للصحافيين المحترفين من أهم الأوراق التاريخية أو الموجهة للصحافة الأميركية، سواء على مستوى المضمون أو الأهداف الكبرى، كما تحتوي على الكثير من الأولويات التي تحددها الوثيقة في محاولتها للربط بين مفهوم الحرية الذي هو حق دستوري وبين المسئولية الاجتماعية للصحافة، فهي السلطة الرابعة التي تقع عليها مسئولية تنمية المجتمع جنبا إلى جنب مع باقي المؤسسات الدستورية الفاعلة.
كما تحتوي وثيقة 1973 على أهم الملامح الخاصة المميزة للصحافة الأميركية، ولكنها تغفل عن توصيف مفهوم الاستقلالية الصحافية بشكل كامل، ولعل أكثر النقاط التي تفتقدها أوراق ومواثيق الصحافة الأميركية هو ذلك الفراغ الكبير في تحديد مفهوم استقلالية الصحافة عن رأس المال، لذلك تجد المفهوم العام للاستقلالية الصحافية منحصرا بوضوح على المفهوم التطبيقي العملي لمهمة الصحافي، ولكنها كقوانين لا تطالع المفهوم النظري للصحافة كرأس مال.
ومن هنا كانت الصحافة الأميركية متحركة تحت تأثير رأس المال أكثر منها بتأثير المعايير التي تدعو إليها الأوراق الشرفية التي اعتمدتها رموز الإعلام الأميركي.
الأهداف المعلنة في وثيقة 1973
التركيز على حرية الحصول على المعلومات وتداولها مطلقا وانه حق دستوري كامل لا يمكن أن ينتقص أو يلغى.
المرجعية الدستورية في حرية المعرفة.
البحث عن الحقيقة هدف الصحافة الأول، فالحقيقة هي غاية الصحافي.
الموضوعية والدقة في العمل.
تحقيق العدالة عبر تطبيق كل القيم الأخلاقية عامة.
المعايير التي تقبل بها وثيقة 1973:
حق المعرفة للفرد الأميركي وأنها إحدى متطلبات رفاهيته.
مراعاة القيمة الإخبارية (تماس مع نظرية المسئولية الاجتماعية).
ألا يكون الصحافي مشتركا سياسيا أو ذا طبيعة وظيفية أخرى (استقلالية الصحافي وعدم تأثره بمصالح أخرى سوى مصلحة الجمهور).
الموضوعية والصدقية في الطرح والنقل والتأكد من صدق المعلومات.
حق الرد والتصحيح لكل ما ينشر من معلومات خاطئة.
تشجيع الفعل ورد الفعل بين الصحافي والجمهور، إذ ان رد فعل الجمهور لابد أن يكون موضع دراسة واهتمام.
عدم خلط مفهوم الرأي والخبر التحليلي وعدم خداع القارئ بالدمج بينهما.
الانحياز في مقالات الرأي خيانة لروح الصحافة الأميركية، وهو تغليب لمصالح خاصة على مصالح الشعب.
احترام كرامة الإنسان وعدم المساس بالحرية الشخصية.
إن الاهتمام بكل ما ورد هو دلالة على عمق العلاقة التي تربط الصحافة الأميركية بمجتمعها.
تحليل وثيقة 1975
العناوين الكبرى التي صاغها رؤساء تحرير الصحف الأميركية في هذا البيان التي ترتكز على الكثير من المحاور منها المسئولية التي تأتي بها الصياغة بشكل مميز إذ إن الإخبار والمعرفة بالحوادث هي من ضروريات رفاهة الشعب، فلابد أن يكون المواطن ملما بكل الحوادث ليتسنى له التعليق عليها وبناء موقفه. وترتكز هذه البنود على تصيير المهمة الإعلامية بأنها مهمة عمالية وتحاول أن تركز هذا المفهوم في بند المسئولية بوضوح، فالصحافي هو كالعامل يحاول إنجاز عمله، وليس عمله اختيار الحقائق ومن ثم عرضها بل هو عرضها بذاتها كما هي، وتلك هي مهمته فإن لم ينجزها فإنه انتقص من رفاهية المواطن الأميركي.
تأتي الصفات الخاصة بالصحافي الأميركي في ثاني الأولويات بعد تحديد مهمته بحسب صوغ البيان، إذ يركز على تلك الخصائص التي لابد أن يمتلكها الصحافي. إذ مع التركيز على مفاهيم حرية الصحافة والإشارة إلى أنها ضرورة من ضروريات حرية الشعب ككل، يشير البيان إلى أن هذه الحرية لابد أن تتصف بالاستقلالية التي تضمن لها الفاعلية، بمعنى ألا تتحول هذه الحرية إلى قوة مستغلة وموظفة في سبيل مصالح خاصة أو شخصية.
كما تركّز ورقة البيان على بعض الخصائص المهمة كالصدق والأمانة والدقة وهي عوامل تحقيق لتلك الاستقلالية التي ركز عليها مصدرو البيان، إذ تتمحور صدقية الصحيفة في مدى ثقة القارئ بها وبمحتوياتها وبمدى رؤيته لسلوكيات رجال وسيدات الإعلام بالصحيفة.
كما يحاول البيان التوفيق بين حرية الرأي وصدقية النقل والتحليل إذ يدعو إلى الفصل الواضح بين مفهوم التغطية التحليلية أو الخبرية وبين مفهوم الرأي، إذ يركز على أن إطلاق الرأي وإبرازه ضرورة مهمة يجب أن يتصف بها الإعلام، ولكن لابد ألا يختلط على المستقبِل (المواطن) ما يعتبر رأيا خاصا وما يعتبر خبرا.
كما تضيف الورقة بعدا حساسا ومؤثرا، هو عدم التعرض للحريات الشخصية وان على الصحافيين الحذر الشديد في تغطياتهم وكتاباتهم من ممارسة التعدي على الحريات الشخصية. وكما تركّز على حرية الصحافي في إخفاء مصادره المعلوماتية إلا أنها تترجى منه الإفصاح عنها في حال اقتضت الضرورة، كأن تكون معرفة هذه المصادر ضرورة لحفظ الأمن الوطني أو ما شابه.
أخيرا، يسعى بيان 1975 إلى بناء علاقة خاصة مبنية على الصدقية والاحترام والثقة بين الصحافيين الأميركيين والشعب، ويحاول التأسيس لروح إعلامية تتسم بهدف واحد وهو بقاء هذه الحرية الإعلامية والصحافية، إذ إن الانحراف عن هذه الرؤى قد يجر الساسة إلى كبت هذه الحرية أو التقليل منها، بدواعي عدم صدقيتها وعدم احترامها للمنجزات الوطنية ولربما لعدم فاعليتها في التطور المجتمعي.
كاتب بحريني
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 657 - الأربعاء 23 يونيو 2004م الموافق 05 جمادى الأولى 1425هـ