تناول آية الله السيدمحمد حسين فضل الله، في خطبتي صلاة الجمعة في حارة حريك، عددا من قضايا الساعة، ما صدر عن اجتماع وزراء خارجية الدول الإسلامية الـ 57 في تركيا، من قرار سخيّ بمساعدة العراق بفعالية في الفترة الانتقالية، وبدعوة الأمم المتحدة إلى نشر قوات لحفظ السلام في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإنجاح المسارين اللبناني والسوري ودعم لبنان في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وإدانة التهديدات ضد سورية والعقوبات الأميركية المفروضة عليها.
وعلق فضل الله في الخطبة السياسية على ذلك قائلا: «إنه كلام جميل، ولكن السؤال: ما هي آلية التنفيذ في مفردات السياسات الذاتية لكل دولة من هذه الدول التي تضغط لتحويل القرار الى واقع بما تملكه من عناصر الضغط؟ وما هي القوة التي تحرّكها في هذا الاتجاه؟ وهل تملك من أمرها شيئا في مواجهة الضغوط الأميركية التي تحاصر هذه الدول في أوضاعها الأمنية والاقتصادية والسياسية، لتفرض عليها أكثر من تجميد لقضاياها الحيوية المصيرية بقدر ما يتصل الأمر بالمصالح الأميركية الاستراتيجية المتحالفة مع المصالح الإسرائيلية، بما يؤدي الى إحساس الجميع بالعجز عن تحويل القرار الى واقع فعلي؟ ولا ندري لماذا لم تهدد هذه الدول بالعقوبات الاقتصادية «إسرائيل» وأميركا، ردّا على التهديدات العسكرية والاقتصادية والسياسية لهاتين الدولتين؟!
إننا نجد في هذه المنظمة التي منحت نفسها اسم الإسلام من خلال صفة شعوبها لافتة لا تعبّر عن واقعية تطلعات الشعوب الإسلامية، ولا تتحرك بجديّة في تحريك قراراتها، بل إنها تواجه الموقف بالطريقة التي تعبّر فيها في خلفياتها عن الخضوع للعجز الواقعي تحت تأثير الضغط الأميركي من وراء الستار.
أما الإدارة الأميركية فلا نجد وصفا لها أفضل من الإدانة التي وجهها دبلوماسيون وعسكريون أميركيون سابقون للسياسة الخارجية المتغطرسة التي تعتمد على القوة العسكرية المفرطة واللاأخلاقية، ما أدى الى عزلة دولية لم تشهدها الولايات المتحدة في تاريخها، فالبيان اتهم هذه الإدارة بأنها مدفوعة باعتبارات أيديولوجية بدلا من التحليل العقلاني، وبتدبير غزو العراق من خلال التلاعب بمعلومات استخباراتية غير موثوقة بشأن أسلحة الدمار الشامل، وتعطيل الحل العادل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
النفق الاميركي المظلم
إن هذه الإدانة من هؤلاء تدلنا على سياسة هذه الإدارة المتغطرسة التي شجّعت «إسرائيل» على تدمير البنية التحتية للفلسطينيين، واعتبرت مواجهة الاحتلال إرهابا، وحوّلت الظلم الإسرائيلي للأرض والإنسان الفلسطيني أمرا واقعا في تشريع للمستوطنات وللجدار الفاصل، مع اللعب على الألفاظ بطريقة نفاقية تتحدث مع العالم بأسلوب، ومع «إسرائيل» بأسلوب آخر تشجيعي، ما جعل الدولة الفلسطينية في خطة الطريق نكتة سياسية مضحكة، وحوّلت اللجنة الرباعية الدولية الى مجرد تجمّع عاجز عن أيّ حلّ، لأن الذين يسيطرون على الإدارة من اليهود والمحافظين الجدد يعملون لمصلحة «إسرائيل» أكثر مما يعملون لمصلحة أميركا. ولذلك، فإننا أمام هذا الواقع المأسوي الذي تحوّل الى كارثة في فلسطين، لابدّ من أن تقف شعوبنا موقفا سلبيا ضد السياسة الأميركية التي هي سرّ المأساة في فلسطين والعراق والمنطقة كلها، لأن هذا الانحياز الأميركي الصارخ لمصلحة «إسرائيل» جعل شعوب المنطقة لا تفرّق بين أميركا و«إسرائيل» في كل قضاياها المصيرية، لاسيما في قضية الحرية التي أسقطتها أميركا من حساباتها السياسية في دعمها المطلق للاحتلال الإسرائيلي، وفي إبقائها على الاحتلال للعراق حتى بعد إعطاء العراقيين السيادة في 30 يونيو/ حزيران، لأن الاحتلال الحالي سيتحوّل الى احتلال واقعي بفعل بقاء القوات العسكرية والأمنية الأميركية في العراق الذي لا يملك أمر تحريكها أو رفضها بحجة حماية أمنه، بمعاهدة لا تستطيع أية حكومة عراقية رفض التوقيع عليها. والسؤال: إذا لم تستطع أميركا بقواتها مع حلفائها حماية أمن جنودها وأمن المدنيين العراقيين في هذه المرحلة، فكيف يمكنها أن تحافظ على الأمن في فترة السيادة الشكلية، في غياب جيش وأمن عراقيين فاعلين؟!
لقد تحوّل العراق الى ساحة تختلط فيها كل الأوراق، وأصبح المجرمون من الداخل والخارج يعملون على قتل المدنيين من دون رحمة ومن دون معنى، وما زلنا نسمع من المسئولين العراقيين في الحكومة المعيّنة أميركيا حديثا عن مجازر تنتظر العراقيين وأن عليهم الصبر. والسؤال: ما هي الوسائل للخروج من هذا النفق المظلم ما دام الأميركيون يمنعون فتح أية ثغرة للنور فيه؟
وما دام الحديث عن أميركا، فلابد لنا من الإشارة الى الضغط الأميركي الذي تخضع له الدول الأوروبية عبر وكالة الطاقة الذرية في المواجهة السياسية لإيران في تجاربها النووية للأغراض السلمية، بعد أن أعلنت من أعلى موقع رفضها لصنع الأسلحة الذرية وانسجامها مع المعاهدة التي وقّعت عليها مع هذه الوكالة.
إننا نقدّر الموقف القوي لإيران في هذه المواجهة التي تقودها أميركا، وكأن الوكالة تقول: «رتّبوا أيها الإيرانيون أوضاعكم مع أميركا وستُحل كل المشكلات». ونحن نتصوّر أن الجمهورية الإسلامية تملك القوة والإرادة اللتين تمكّناها من الصمود وعدم الخضوع أمام هذه الضغوط الأميركية.
الفساد في الداخل
أما في لبنان الذي تُفتح فيه ملفات الأزمات في الجذور العميقة للمشكلات، فإن الحركة السياسية تتحوّل من معالجة الأصول إلى التحرك في الفروع... ففي أزمة الكهرباء كان هناك حديث كثير عن خطوط الفساد والهدر والخلل الإداري والشخصيات المتعاقبة على إدارة الطاقة، ولكن الحلول الجذرية هربت من قانون المحاسبة ليصرخ الجميع بأن هناك مشكلة موسم الاصطياف الذي لا يتحمّل التعتيم، فقرروا المليارات الآن لتتبعها المليارات غدا، ولتؤجّل كل موازنات الدولة، ولتتحرّك الديون للمؤسسات التي لا تستطيع الوفاء، لتتبعها ديون الدولة التي تبحث عن الضرائب على الفقراء الذين ستشغلهم اللعبة السياسية عن الاستحقاق الرئاسي والانتخابي.
ويبقى الجوع الكافر يصرخ: كيف نعيش، وكيف نواجه الأزمات الحياتية، وتبقى الدوّامة في أكثر من أزمة رئاسية وحكومية، وتبقى الطائرات الإسرائيلية تتجوّل في لبنان بطريقة اعتيادية... وتبقى المخدرات السياسية... وتستمر الملهاة في أحضان المأساة... وكل لبنان وأنتم بألف شرّ
إقرأ أيضا لـ "السيد عبدالله الغريفي"العدد 656 - الثلثاء 22 يونيو 2004م الموافق 04 جمادى الأولى 1425هـ