العدد 648 - الإثنين 14 يونيو 2004م الموافق 25 ربيع الثاني 1425هـ

قرار وقمة: أرباح بوش وخسائر العرب

في أقل من أسبوع حقق الرئيس بوش خبطتين دبلوماسيتين موفقتين، على المستوى الدولي. وتكمن أهمية نجاحه هذا في أنه حصل خلال أضعف لحظة تمر بها رئاسته. لحظة كان من المفترض أن يتم فيها - وهو محشور في عنق الزجاجة - تدفيعه ثمن سياساته الحمقاء واندفاعه المهووس نحو الحروب، ناهيك بانتهاكاته الفاضحة للقرارات والقوانين والأعراف الدولية. لكن ما جرى هو العكس. ففيما هو محاط من كل جانب بالتحديات والأزمات المتفاقمة، الداخلية والخارجية، جاءه الانقاذ والتعويم من الأمم المتحدة نفسها، التي لم يتعامل معها بغير الازدراء والتهميش، ثم من قمة الكبار الثمانية، الذين سبق لغالبيتهم ان وقفوا ضد حربه على العراق. وإذ يعزو البعض هذه المفارقة الصارخة إلى الخلل الراهن في المعادلة والتوازنات الدولية المعروفة، فإن لهذا الواقع أيضا جانبا آخر يتمثل بالغياب العربي المتواصل، الذي فاتته مرة أخرى اغتنام فرصة سانحة للتحرك الفعّال من أجل العمل على زيادة الضغوط على الاحتلال، لتقصير أمده على الأقل، في العراق، واحباط مخططاته الاقتلاعية الجارية في فلسطين، وفي ذلك مصلحة مباشرة للوضع العربي إجمالا وليس فقط للعراق وفلسطين. لكن هذا الوضع كالعادة، لا هو استقوى بالآخرين المعترضين، لتعزيز مواجهته، ولا هو أعطى هؤلاء المعترضين الفرصة للاستقواء به وتصليب مواقفهم بالتالي في مواجهة التفرد الأميركي الإسرائيلي بهاتين الساحتين. فكانت النتيجة ان طلع الرئيس بوش الرابح الأكبر في مجلس الأمن وقراره العراقي الأخير، كما في قمة الثماني وبيانها النهائي، ولو انه لم يأخذ فيه كل ما أراده. فهو مهّد للحصول على المراد في الاجتماعات الدولية اللاحقة. وتحديدا قمة الناتو المقبلة، أواخر الشهر الجاري، في اسطنبول. وحتى لو انه ما كان الرابح الأكبر، فهو بالتأكيد نجح في الحد من خسائره. وفي ذلك مكسب له، هو في أشد الحاجة إليه، لتعويم وضعه الانتخابي الهابط. وعندما يكون هناك رابح، يكون مقابله خاسر. ومصيبة الخاسر المعروف انه لم يعد يحتمل المزيد من الخسائر.

قرار «ما كان بالإمكان أفضل مما كان»، الصادر عن مجلس الأمن قبل أيام، ملغوم. في أحسن حالاته ملبش ومطاط تماما كما كان حال القرار 1441 الشهير، الذي سمحت ضبابيته بتحوير مضمونه، من خلال اللعب على عبارة «عواقب وخيمة» وليّ عنقها لاستخدامها مطية وغطاء لغزو العراق. الصوغ نفسه مكرر إلى حد بعيد، في القرار الجديد 1546. بل ربما أكثر لناحية التمويه والازدواجية وذرّ الرماد في العيون. فهو يتحدث عن «إنهاء رسمي» للاحتلال بحلول 30 يونيو، فيما الاحتلال على الأرض قائم وباقٍ بعد هذا التاريخ. يتحدث عن عودة السيادة إلى أصحابها، لكن في الوقت ذاته لا يتو للحكومة العراقية، المؤقتة أو الانتقالية، على حركة القوات الأميركية، كما قال الوزير باول. يتحدث عن «شراكة» أمنية بيد قوات الاحتلال والقوات العراقية، في حين يبقى القرار بين الأولى. بل تبقى الثانية تحت امرة القيادة الأميركية. ينصّ القرار على تشكيل «قوة دولية بقيادة أميركية» في حين ان هذه القوة هي أميركية أساسا، بحجمها وتركيبتها وقيادتها، خلافا لتشكيلة أية قوة دولية عاملة تحت علم الأمم المتحدة، في أي مكان في العالم. وحتى إذا جرى تطعيمها بعناصر وقوات إضافية متعددة الجنسية، فإن مثل هذه الإضافة تبقى رمزية، وبكل حال خاضعة للقرار العسكري الاميركي. والأدهى من ذلك ما جاء في القرار من أن هذه القوات باقية في العراق «بموافقة وطلب» الحكومة العراقية المؤقتة، وان لهذه الأخيرة «الحق في إصدار أمر يقضي بانسحاب» الجيوش الأجنبية» (!!).

لا يحتاج الأمر إلى شرح يفضح حقيقة هذا الحق الوهمي. لكن أخطر ما في القرار يتمثل في نقطتين جوهريتين تترتب عليهما آثار تمس القانون الدولي بقدر ما تمس وحدة العراق ومصيره.

1- الأولى انه يمنح الاحتلال شرعية بمفعول رجعي. وكأنه عفا الله عما مضى، بحيث تحوّل الغزو إلى وصاية، كما تحوّل القفز فوق الأمم المتحدة والاستهتار بها إلى أمر واقع مقبول، جرى تجميله بصوغ محبوك تحجب وجه الاحتلال وتقدمه بصورة المنقذ. وعندما يجري التزييف بهذه الحدود فهل تبقى هناك أية ضمانة، حتى لا نقول رادع، تمنع تكرار مثل هذا الانتهاك؟

2- إن القرار خلا من الإشارة إلى سقف زمني محدد بصورة قاطعة، للاحتلال. الاكتفاء بإعطاء الحكومة العراقية حق المطالبة بانسحاب الجيوش عن أراضيها، لا يقدم ولا يؤخر. صاحب السيادة المنقوصة والشرعية المفقودة لا يقوى حتى على رفع هكذا طلب. وكان الرئيس شيراك أبرز المطالبين بهذا السقف. وهو المحك الفعلي لأي انسحاب حقيقي مزمع، لكن بالنهاية طار هذا المطلب في كواليس المساومات. وبكل حال لم يكن مطلوبا من الرئيس الفرنسي أن يكون ملكيا أكثر من الملك. فالجانب العراقي، فضلا عن الجانب العربي، لم يتمسك بهذا الشرط، بل لم يطرحه أصلا. وبذلك بقي «رحيل» الاحتلال مرهونا «باستكمال المهمة» على حد تعبير الرئيس بوش أخيرا! متى تنتهي؟ متروك لواشنطن وليس لحكومة عراقية أن تقرر.

على أرضية انجاز 1546 ذهب بوش إلى «سي آيلاند»، متسلحا «باجماع» في مجلس الأمن وبتبخر الاعتراضات الجامدة، إلى جانب حضور عربي ولو تذكاري، يوظّفه لتعزيز سياسته العراقية ولحجب دعمه لشارون وخطته في غزة.

القضية الفلسطينية بالكاد كانت حاضرة، مرّ البيان الختامي على ذكرها بصورة عابرة،. ربما لرفع العتب ولم يكن من المتوقع أكثر من ذلك. فالرئيس بوش على توافق مع شارون بشأن خطة هذا الأخير بخصوص غزة. وفي الوقت الراهن ليس في جعبته ما يضيف، على الأقل حتى الانتخابات. وحتى لو فاز لن يكون جديده أفضل من قديمه. بل من المتوقع أن يتشدد أكثر. ومشروع الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لـ «إسرائيل» بدأ يتحرك من جديد في الكونغرس، بحيث يكون جاهزا للتوقيع بعد الانتخابات، لذا اكتفت القمة بإعلان عودة اللجنة الرباعية إلى المنطقة - كم مرة عادت ورجعت بخُفّي حنين؟ - «من أجل المساعدة في تنظيم الانتخابات البلدية في الأراضي المحتلة» (!) وكأن هذا الأمر هو المهمة المستعجلة الآن! وحتى هذه الإشارة المتواضعة، بل الخاوية والتي لا تزيد عن جرعة تخدير، لم تكن لتحصل لولا إصرار الرئيس الفرنسي وحاجة بوش إليه في الملف العراقي، على أساس أن يكون هناك نوع من الموازاة مع مطلب الإصلاح الأميركي.

أما بخصوص هذا المطلب ومشروعه الذي طرحته إدارة بوش تحت عنوان «مبادرة الشرق الأوسط الكبير»، فقط تمّ تسويقه واحتقانه من جانب القمة، على رغم كل الضجيج والاعتراضات فقط تم استبدال بعض العبارات بحيث يبدو المشروع بمثابة «شراكة» وليس «مطالب مفروضة»، مع التنويه «بخصوصية» كل بلد عربي وبأن يأتي الإصلاح بالتدرج وبالتناغم مع جهود التسوية للصراع العربي الإسرائيلي! لكن الإدارة الأميركية لم تتراجع عن شرطها «بأن يأتي الإصلاح قبل حلّ هذا الصراع»، كما سبقه وشدد عليه نائب الرئيس تشيني.

البند الوحيد الذي لم يقوَ بوش على تحقيقه في القمة كان مطلب إشراك الناتو في احتلال العراق. ومرة أخرى كان الرئيس الفرنسي المعترض الأبرز. ويبدو أن الأروبيين إجمالا وشيراك خصوصا، لديهم ارتياب كبير بنوايا واشنطن في هذا الخصوص، لجهة أن المسألة تنطوي ليس فقط على توريط أو رغبة في تدويل هذا الملف بل أيضا على خطة تفضي إلى توسيع وتكريس الغزو في المواجهة بحيث يبدو وكأن الصراع محتدم بين غرب مسيحي وشرق إسلامي. ومن هنا إصرار بوش، مع بلير، على إعادة طرح هذا الموضوع أمام قمة الناتو المقبلة، أواخر الشهر الجاري في اسطنبول، سيما وأن شيراك لم يحسم نهائيا في هذا الخصوص. وربما ترك الباب مفتوحا لصوغ وسط يتردد انه قد يأتي بصورة تكليف الناتو «بتدريب» القوات العراقية الناشئة.

ويعرف بوش من تجربة فيتنام أن تقديم مساعدات عسكرية من هذا النوع تنتهي إلى التوريط في الصراع، إذا ما بقيت عوامله ملتهبة. وهكذا حصد الرئيس بوش غلّة وفيرة في أسبوع، قادرة على شحن وضعه بما يكفي من الطاقة إلى حين. على الأقل لاجتياز قطوع 30 يونيو، الذي إذا ما مرّ بسلامة، أعطاه هو الآخر ما يلزمه من الذخيرة لتزخيم حملته الانتخابية التي تدخل حلقتها الحاسمة مع دخول الصيف.

كاتب لبناني

العدد 648 - الإثنين 14 يونيو 2004م الموافق 25 ربيع الثاني 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً