العدد 642 - الثلثاء 08 يونيو 2004م الموافق 19 ربيع الثاني 1425هـ

أسلحة التضليل الشامل... وانتفاضة الضمير!

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

يبدو أن صحوة الضمير، قد بدأت تبعث رسائلها الأولى، لتبدد بعضا من حلكة الليل، التي لفت الجميع على مدى العامين الأخيرين تحديدا... وصحوة الضمير التي نعنيها هي تلك التي أخذت تراجع أسباب ودوافع الحرب الإنجلوأميركية ضد العراق، ابتداء من التمهيد السياسي الإعلامي النفسي لها، بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 ضد قدس الأقداس الأميركية، اشتعال ما يسمى الحرب العالمية ضد الإرهاب، ثم غزو أفغانستان، ومن بعدها العراق، وصولا إلى الورطة السياسية العسكرية التي تحاول الولايات المتحدة الخروج من مستنقعها العراقي الآن بكل السبل.

ولعل أهم محاولات الخروج الأميركي من المستنقع العراقي الدامي، تتمثل الآن، ليس فقط في العودة إلى الاستعانة بالأمم المتحدة وشرعيتها الدولية، بعد طول رفض وتهميش، ولكن أيضا بحملة نقد الذات في الداخل الأميركي، بعد أن أشبعه الخارج، وخصوصا الأوروبي، بالمعارضة القوية لسياسة الاندفاع العسكري الامبراطوري، واعتماد القوة المسلحة أسلوبا وحيدا لفرض الإرادة وبسط الهيمنة، على العراق وغيره من دول وشعوب العالمين العربي والإسلامي.

يتوقف الإنسان بتأمل أمام عشرات الكتب الجديدة التي تملأ السوق الأميركية هذه الأيام، والتي تتناول بالشرح والتحليل والوثائق، أصول وجذور الفكر التوسعي، الذي يحكم جناح المحافظين الجدد، المتحكمين إلى حد بعيد في السياسة الخارجية الأميركية الآن، والمسيطرين بقوة على مفاتيح ومراكز صناعة القرار، من قمة البيت الأبيض، إلى وزارة الدفاع، إلى مجلس الأمن القومي، إلى الكونغرس بمجلسيه، وصولا إلى الإعلام قبل وسائل صاحبة التأثير الجبار.

وربما تكون فضائح تعذيب الأسرى والمسجونين العراقيين، في السجون الأميركية بالعراق، قد احتلت الشاشة وملأت الساحة الإعلامية بكثير من الضجيج، المصحوب بالتقزز والاحتجاج والاستنكار والتبرؤ ممن ارتكبوها باسم الشعب الأميركي، لكن المتأمل في الموضوع لابد يكتشف أن تأثيرات ما جرى في سجون العراق، على أيدي جنود أميركا المبعوثين برسالة تبشيرية، هدفها - كما أعلن الرئيس بوش - حرية العراق، وتحريره من القهر والاستبداد والظلم، هي تأثيرات أعمق من ضجيج الإعلام، وأوسع مدى من تحقيقات الكونغرس العلنية بشأنها، وذلك أن تداعياتها المختزنة، ستضرب بقوة في قلب الفكر السياسي الديني المتعصب الاستعلائي، ذي النزعات الامبراطورية... فكر اليمين الأميركي، أو فكر المحافظين الجدد، الذين سبق أن كتبنا عنهم مرارا، وتخصص في متابعتهم بدقة الكاتب العربي الكبير جهاد الخازن.

لقد شن هؤلاء أكبر حرب تضليل وتزييف في العالم، وقودها كميات هائلة من «المعلومات والحقائق والأرقام الملفقة والمصنعة بخبرة كبيرة»، لا تختلف كثيرا عن حروب الدعاية، التي طالما اتهم النازيون بممارساتها خلال الحرب العالمية الثانية، معلومة تسرب إلى وسائل الإعلام، أو شائعة تحمل بعض الحقيقة وبعض الكذب، سرعان ما يتداولها الناس، تكبر كلما تدحرجت في الطريق، مثل كرة الثلج حتى تصير جبلا هائلا، يصعب هدمه.

**** وحين بدأت «الأرمادا» الأميركية، تتجمع في المنطقة العربية، وتستعد لإطلاق أسلحتها الفتاكة ضد العراق، مع الشهور الأولى للعام الماضي 2003، كانت «أسلحة التضليل الشامل» تواكب أسلحة التدمير الشامل، جزءا رئيسيا من الجهد الحربي، ليس فقط لغزو واحتلال العراق، بل لغزو واحتلال الوعي العربي، والعقل والرأي العام العالمي، بحيث اصطف الجميع وراء الجمهور الحربي الأميركي، وكأنه يواجه قوة أسطورية في العراق، تحتاج إلى تكاتف الجميع، وتبرر بشرها المفرط، الغزو والاحتلال، القتل والتعذيب، الهدم والتدمير، وانتهاك كل حقوق الإنسان، وتجاهل كل المبادئ الأخلاقية، وإسقاط الشرعية الدولية، بحجة القضاء على الشر والشرير في العراق، الذي يهدد الحضارة الإنسانية بما يملكه من أسلحة الدمار الشامل المزعومة!

ولعل قراءة سريعة لكتابات وكتب، بعض المفكرين والسياسيين الأميركيين التي نشرت حديثا، مثل بوب وودمارد، وجون إكنبري، والدبلوماسي جوزيف ويلسون، والاقتصادي الأشهر جورج سورس، فضلا عن كتّاب الأعمدة في الصحف الكبرى، تضع يدنا مباشرة على الحقيقة التي تقول، إن المحافظين الجدد قد اختطفوا حكم الرئيس بوش وإدارته، وهذه اختطفت أميركا العظمى، وهذه اختطفت العالم كله، وحشرته في مأزق تاريخي رهيب، تظلله حملة عسكرية مسعورة مذعورة، بحجة مكافحة الإرهاب، وتقوده حملة دعائية مضللة تستخدم كل أسلحة التضليل الشامل، حتى ضبطت أميركا متورطة في حروب دامية! (راجع كتابنا الجديد الذي صدر حديثا، بعنوان: «تزييف الوعي - أسلحة التضليل الشامل»، إذ أوضحنا بدراسة مفعمة هذه القضية وغيرها).

من السهل علينا أن نقرر بضمير مستريح وفكر هادئ، أن الترسانة الصهيونية الهائلة، كانت ولاتزال تقف وراء هذه الحرب العصابية التي تسيطر، ليس فقط على عصابة المحافظين الجدد المتطرفة، ولكن للأسف تسيطر أيضا على دوائر إعلامية وسياسية وبرلمانية ومالية وصناعية، تمسك بعصب الحياة في الولايات المتحدة، من السهل علينا أن نذكر عشرات الأدلة والبراهين لإثبات هذه الحالة، التي توحدت فيها السياسة الأميركية، مع الأهداف الصهيونية، بدرجة مذهلة، جعلت من السفاح شارون بطلا للسلام وداعية للتعايش، كما وصفه حديثا الرئيس بوش!

لكن من الصعب جدا، أن تجد سياسيا أو كاتبا أميركيا، يملك شجاعته، وخصوصا هذه الأيام، ليعلن رأيه في طبيعة التأثير الصهيوني الغلاب، على فكر المحافظين الجدد، ومن ثم على سياسة الإدارة الأميركية الحالية، فمثل هذا يماثل الأسطورة التاريخية الشهيرة «الغول والعنقاء والخل الوفي»، ثلاثة نماذج غير موجودة في حياتنا اليومية، اللهم إلا ما ندر ندرة فائقة!

لكن لكل قاعدة استثناء... ولنأخذ الاستثناء النادر، من موقف السيناتور الأميركي «ارنست هولنغز» صاحب العضوية التي تقترب من الأربعين عاما في مجلس الشيوخ عن ولاية كارولينا الجنوبية، والذي يتعرض الآن لحملة صهيونية هائلة متهما بمعاداة السامية، وخيانة المبادئ الأخلاقية لأميركا!

****

قبل أسابيع نشر السيناتور مثالا مثيرا، فكرته الرئيسية تقول، إن عصابة المحافظين الجدد، «بقيادة ريتشارد بيرل، وبول وولفوفيتز، ومن بعدهم وزير الدفاع رامسفيلد» قد ضللت الرئيس بوش، والذي ضلل الأمة والعالم كله، وقدموا معلومات «مفبركة»، عن العراق وأسلحة الدمار الشامل فيه، وعن علاقة صدام حسين بتنظيم «القاعدة» وبن لادن، لكي يبرروا طريق شن الحرب الواسعة من أفغانستان إلى العراق، وما خلف العراق وبعده.

فماذا كان الهدف الحقيقي من هذا؟ يجيب السيناتور الشجاع، إن أميركا خاضت هذه الحرب الدموية، التي انتهكت فيها كل حقوق الإنسان، وارتكبت كل الجرائم ضد الإنسانية، دفاعا عن أمن «إسرائيل» وأهدافها التوسعية، بينما «أسلحة التضليل الشامل» تمارس أضخم حروب الدعاية وتزييف الوعي الأميركي، بل والعالمي!

وبصرف النظر عن حملات الهجوم الصهيونية المعادية التي تشنها، منظمات اللوبي الصهيوني الأميركي، وخصوصا «الايباك» السرطانية الانتشار، ضد السيناتور العجوز وأمثاله، إلا أن الرجل امتلك شجاعته في نهايات عمره - 82 عاما - ليضع يده في فم الوحش، بل ليضع رأيه في عين الحقيقة، التي يجرى تزييفها على الدوام، في المجتمع الأميركي، فدونها الموت الجسدي، أو الاغتيال المعنوي، إن لامست المصالح الإسرائيلية والأهداف الصهيونية!

وقد قلنا من قبل مرارا، ونكرر اليوم، إن صحوة ضمير، قد بدأت تدبُّ، ربما على استحياء، في المجتمع الأميركي، الذي يفخر دوما بمبادئه الأخلاقية، ولذلك لن يكون رأي السيناتور هولنغز، ولا مجموعة الكتب والكتابات الحديثة، التي بدأت تنشر حديثا، سوى أول الغيث، تعبيرا عن ذهاب السكرة وحضور الفكرة، فأسلحة التضليل الشامل، لابد ستفقد مع توالي الزمن، وتراكم الحقائق، كل قوتها الخداعية.

في باب صحوة الضمير، التي نرجو أن تكون حقيقية وصادقة ومستمرة، تأتي مبادرة صحيفة «نيويورك تايمز» التي نحترم حرفيتها ومهنيتها العالية، ونختلف مع بعض توجهاتها السياسية وخصوصا المناصرة لـ «إسرائيل» والصهيونية، تلك المبادرة التي اعترفت فيها قبل أيام، بتقصيرها، وسقوطها في أحابيل حملات التضليل على مدى العام الماضي، بشأن أسلحة الدمار الشامل في العراق.

انتقدت الصحيفة في «عمود المحرر الرئيسي» يوم 26 مايو/ أيار الماضي، نفسها وتغطيتها لهذا الموضوع، الذي اتخذت منه الإدارة الأميركية مبررا لشن الحرب ضد العراق، ولامت محرريها بقوة وعلانية، وقالت: «كان يجب عليهم التدقيق بقوة والتحقيق بعمق في هذه الذرائع التي لم تثبت صحتها حتى الآن، والتي أوقعت الجميع في شباك الخداع والتضليل وحجب الحقائق وتزييفها، بعد أن جروا وراء تسريبات وزارة الدفاع وعملاء المخابرات وفصائل المعارضة العراقية!».

وهذا موقف لا يقل أهمية ودلالة، عن مواقف صحف وشبكات التلفزيون الأميركية المهمة الأخرى، التي نشرت وأذاعت، حقائق وصور التعذيب اللاإنساني الرهيب للمساجين والمعتقلين العراقيين، على أيدي الأشاوس الأميركيين، رسل الرحمة والحرية، على رغم كل الضغوط التي مارستها الإدارة، لإيقاف النشر!

وهو موقف في النهاية، قد يكون مبنيا على أهداف سياسية ومناورات حزبية، وحملات انتخابية حامية، لكنه في كل الظروف يشير بدرجة من الدرجات إلى صحوة ضمير وتيقظ رأي عام، كان غارقا حتى أذنيه في وهم القوة الامبراطورية، وحروب تزييف الوعي بأسلحة التضليل الشامل، التي باتت واحدة من أهم الصناعات الحديثة في المجتمع الأميركي!

خير الكلام

يقول ابن الفارض:

إن كان منزلتي في الحبِّ عندكمُ

ما قد رأيتُ، فقد ضيّعتُ أيامي

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 642 - الثلثاء 08 يونيو 2004م الموافق 19 ربيع الثاني 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً