العدد 641 - الإثنين 07 يونيو 2004م الموافق 18 ربيع الثاني 1425هـ

الديمقراطيون العرب... هل هم ديمقراطيون؟

التيه العربي بين الحمار والبردعة!

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

حال من الارتباك أصابت الجسم الثقافي العربي منذ أن نُشر تقريرا التنمية البشرية اللذين ألفهما عدد من الخبراء العرب، وتبناهما برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وسمّيا تقرير «التنمية الإنسانية العربي» الأول والثاني 2002 - 2003.

ما لفت الانتباه إلى التقريرين ليست أهميتهما القصوى التي أظهرت الخلل الفادح في القصور في التنمية الشاملة التي وصلت إلى نقطة الحرج في البلاد العربية، ولا توصياته التي تركزت في ثلاث قضايا كبرى سميت: تمكين المرأة العربية - اطلاق الحريات - وتفعيل المعرفة، وان أول معالم الطريق لتخطي العقبات القيام بإصلاح سياسي عميق وفاعل في البلاد العربية. فمثل هذه القضايا كتب عنها الكثير من الكتاب العرب منذ ثلاثة عقود على الأقل، حتى الديمقراطية كان لها دعاتها، وكان لها لقاء عربي في ليماسول، قبرص في العام 1981 إذ ضاقت بالعرب أرضهم وقتها، فلاذوا بقبرص للتداول في شئون الديمقراطية المبتغاة.

حال الارتباك تولدت نتيجة أن الولايات المتحدة ومعها أوروبا وجدت في تلك التقارير شهادة من أهلها! فاستشهد بها وزير الخارجية الأميركي كولن باول على أنها كتبت بأقلام عربية وتشير إلى القصور في بناء القدرات العربية، وفي توظيفها التوظيف الأسلم، وهذا مما يهيئ بيئة صالحة لعدم الرضا الذي يولد الإرهاب. ورجع إليها الرئيس جورج بوش أيضا، ثم تراكمت الإشارة إليها في وثائق أميركية وأوروبية كثيرة.

ذالك الاهتمام الدولي بتلك التقارير والاستشهاد بها جعل المثقفين العرب وربما الرسميين يرتبكون حيالها. فانقسم العرب إلى قسمين، قسم يقول: لا لاصلاحٍ قادمٍ من خارج الحدود، وقسم يقول: أهلا به حتى لو جاء من خارج الحدود.

وضاعت أوقات كثيرة وصرفت طاقات للحوار بين المثقفين العرب في لقاءاتهم التي تكاثرت كالفطر، بين صنعاء وبيروت، وأخيرا الدوحة، يناقشون الداخل والخارج، الحمار أو البردعة.

طبعا مثل هذا النقاش قضية عبثية، ولكنه ضعف التدريب على الديمقراطية ومواقف ثقافية مسبقة تعشق التفاصيل وتترك الجوهر. حتى تقريرا التنمية المذكوران ومؤلفوهما لم يسلموا من النقد الحاد والشخصي والجارح في أحيان كثيرة، وكأن إطلاق الرصاص على الرسول فيه قتل للرسالة!

لم ينجُ مؤتمر الدوحة الذي حضره كاتب هذه السطور الأسبوع الماضي من مثل هذا الجدل العقيم، إلى درجة التشنج والضرب على الطاولة، في سبيل كلمة هنا في نص الإعلان الأخير، أو كلمة هناك وجب تعديلها.

بعد حضور الاسكندرية والدوحة وقراءة المبادرات التي أطلقتها التنظيمات العربية الأهلية أو السياسية نجد أنفسنا أمام سوق عكاظ للمبادرات، كلها تتخوف مما (يخطط في الخارج)، وهي في الحقيقة استجابة حقيقية لما يقال في الخارج. والمبادرات الإصلاحية العربية حتى الآن سبع مبادرات، هي وثيقة صنعاء للإصلاح 10 يناير/ كانو الثاني 2004، وثيقة الاسكندرية للإصلاح 13 مارس/ آذار 2004، وثيقة جماعة الاخوان المسلمين للإصلاح، مصر 3 مارس 2004. وثيقة حزب التجمع المصري للإصلاح 7 ابريل/ نيسان 2004 . وثيقة المؤتمر القومي العربي للإصلاح، ابريل 2004. .وثيقة قمة تونس للإصلاح مايو/ أيار 2004، ووثيقة مؤتمر الدوحة للإصلاح يونيو/ حزيران 2004!

ألا يلفت النظر هذا العدد من الوثائق التي تنادي بالإصلاح الديمقراطي في البلاد العربية، وأهملت متعمدا بعضها التي ظهرت في المؤتمرات الفرعية العربية التي عقدت هذا العام عن الإصلاح التعليمي والاقتصادي والاجتماعي، فعدد الندوات واللقاءات يفوق العشر، في فترة وجيزة لا تتعدى نصف عام فقط.

بالتأكيد تلفت النظر، ويجزع العقلاء من انه مازال في العقل العربي بقايا مفاضلة بين داخل وخارج. حقيقة الأمر أن الضغط الخارجي بيّن وواضح، فالمبادرات العربية استجابات لمبادرة الشرق الأوسط الكبير أو المصغر الأميركية أو الأطلسية أو لمؤتمر قمة الثماني التي دعي إليها بسبب الأهمية للمنطقة بعض مسئولين من الشرق الأوسط.

سأقصر التحليل على وثيقتين الأولى وثيقة الاسكندرية، والثانية وثيقة الإخوان المسلمين، الأولى بسبب الآلية التي قررتها، وهي إقامة المراصد الديمقراطية والاجتماعات الدورية للمتابعة، والثانية بسبب واضح أن جماعة الاخوان المسلمين في مصر هي «أم الجماعات» كما يقال، ومنها تتسرب الإشارات وتتدفق لآخرين يحذون حذوها في بلاد عربية كثيرة لتحديد المسار وتوجيه البوصلة.

وثيقة الاسكندرية غير وثيقة صنعاء التي ربطت بين «العدل في فلسطين» وبين الإصلاح، وهو أمر اتخذته الكثير من الوثائق العربية، مثل وثيقة المؤتمر القومي أيضا، إلا أن وثيقة الاسكندرية ولدت على يد «المنظمات الأهلية العربية» واعتبرت أن الإصلاح السياسي هو حجر الزاوية للإصلاح في العالم العربي، على غرار تقرير التنمية الإنسانية العربية. والوثيقة تتصف بالشمولية من خلال المحاور التي تبنتها السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي والثقافي، كما تبنّت الوثيقة الإصلاح الدستوري بوضع سقف أعلى لمدة رئيس الجمهورية، وان تسود «الملكيات» ولا تحكم، بمعنى حكم دستوري كامل، وطالبت بالغاء القوانين الاستثنائية، وإطلاق الحريات، وتحرير الصحافة.

يرى نقاد وثيقة الاسكندرية أنها عمومية في طرحها، كما أن الوثيقة لم تحدد قوى التغيير أو آلياته، وقد انتقدها بعض موقعيها، وطالبوا بإضافة بعض البنود عليها.

أما وثيقة الإخوان المسلمين، فهي تعبير عن رؤية أقدم القوى السياسية الإسلامية في المنطقة، وربما أكثرها تأثيرا تاريخيا، وخلت من ربط الإصلاح «بالموضوع الفلسطيني»، وان شددت على أن الإصلاح هو من الداخل لا من الخارج (ربما لإبعادها عن النقد، ومن قبلة الموت التي تربطها بالمبادرة الأميركية). وعالجت الوثيقة أهمية وأولوية الإصلاح من القمة (الإصلاح السياسي)، وطالبت بالمصالحة الوطنية كمقدمة للإصلاح السياسي والشامل، وأقرت بأن الشعب مصدر السلطات وبتداول السلطة، وإبعاد الجيش عن السياسية (لم تتطرق الاسكندرية إلى ذلك)، والغاء قوانين الطوارئ، ومنع التعذيب واستقلال القضاء، وحرية النشاط الاقتصادي، وتحديد مدى زمني لرئيس الجمهورية، من أجل ما سمته المبادرة القضاء على الثالوث المدمر: الجمود السياسي والفساد والظلم الاجتماعي. وترى مبادرة الإخوان المسلمين أن العلم والتقنية وحيازة المعرفة (ما جاء في تقرير التنمية) هي وسيط لأي تقدم مأمول.

لقد تقاطعت مبادرة الإخوان المسلمين في مصر في الكثير من النقاط بالمبادرات العامة الأخرى، مع اعتراف الوثيقة بأنه «من الحق أن نعترف أننا بعدنا إلى حد كبير عن مقتضيات الإسلام، الذي يحض على اقتباس النافع، وان نأخذ الحكمة ان وجدناها». وخصصت المبادرة للأزهر والأقباط والمرأة «التي من حقها المشاركة في الحياة العامة (عدا الإمامة الكبرى)». وقد أثارت هذه العبارة الأخيرة جدلا بسبب غموضها، كما أثار مشاركة المرأة موقفا معارضا من التيار السلفي الأكثر راديكالية في الحركة.

من بين ما يؤخذ على المبادرة أنها لاتزال تحتمي تحت سقف «التراث» واستنطاق النص، كما أنها لم توضح الآلية التي تريد تنفيذ المبادرة بواسطتها، الا انها من جانب آخر اعترفت أن هناك (معرفة) خارج النص!

وتتناغم مع القول إن التجارب المعاصرة وجدت أن الدين «حاجة بشرية» ما دامت تلبي حاجات البشر الروحية، ولكن في المعاش والسياسة يجب أن ننشغل بلغة المواثيق،لا بلغة النصوص المطلقة، ولان الحياة متغيرة فالمواثيق تتغير لتلبي حاجات الحياة.

الخلاف بين ما يطلق من مبادرات للإصلاح من الخارج ومن الداخل هو ليس الأفكار ولا المقاصد فهي متقاربة تقريبا، الخلاف الحقيقي هو بين الأفعال والأقوال.

في الغرب تطلق المبادرات وتوضع البرامج وتخصص الموازنات وتفعل الارادات، فمن يقوم بالإصلاح من الدول يحصل على امتيازات وقروض وحضن دافئ، من يتلكأ يحرم من الامتيازات، وتطلق عليه النعوت والأقوال.

مبادرات الإصلاح العربي هي ضبابية قولية وإنشائية، ومبادرات الخارج تعني إلى حد كبير ما تقول، والسبب في تقديري أن الديمقراطيين العرب لم يتشكلوا بعد، فالديمقراطية ليست حلولا قطعية بل هي حلول وسطى، والعقلية العربية لا تقبل بذلك حتى الساعة

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 641 - الإثنين 07 يونيو 2004م الموافق 18 ربيع الثاني 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً