قال الرئيس الأميركي جورج بوش إنه يصلي كثيرا ويتحدث إلى الملائكة طلبا للقوة عند اتخاذ القرارات التي تتعلق بمصير الولايات المتحدة والشعب الأميركي والعالم. ويبدو أن بوش الذي كانت إدارته في واشنطن تنظر بريبة وشك إلى الأمم المتحدة، سمع من الملائكة أنه لابد من أن يتعاون مع الهيئة الدولية لحفظ ماء الوجه والتحرر من المصاعب التي تعاني منها حكومته من نتائج حرب العراق. فيما ساعدت جهود المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق الأخضر الإبراهيمي في تشكيل حكومة انتقالية جديدة والاتفاق على رئيس ورئيس للوزراء في مرحلة ما بعد صدام، يتطلع بوش إلى مشاركة جدية من قبل حلف الأطلسي في العراق لتخفيف الأعباء عن كاهل القوة العظمى التي اكتشفت من خلال المغامرة العسكرية في العراق أن لقوتها حدودا.
في الوقت الذي تأمل فيه واشنطن أن يوافق حلف الأطلسي عند انعقاد مؤتمر القمة الأطلسية في مدينة إسطنبول نهاية الشهر الجاري، على انتشار جنود تابعين لدول (الناتو) في العراق كي تستطيع قوة الاحتلال الأميركية سحب عدد من جنودها في العراق في مرحلة انتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة وتعزيز شعبية بوش وفرصته للفوز بولاية ثانية في البيت الأبيض، فإن الرغبة الأميركية تواجه عراقيل أولها وأهمها أن دول الحلف لا تجد ما يشجعها على نشر قوات تابعة لها في العراق. فرنسا التي عارضت الحرب تتحدث هذه الأيام عن شروط؛ وألمانيا التي ناهضت الحرب بشدة وحذرت من نتائجها تتحفظ، وتقول مصادر حكومية في برلين إنها لن تكون حجر عثرة في طريق الحلف إذا قرر الزج بنفسه في المغامرة العراقية. وأكدت المصادر أن ألمانيا لن تستخدم حق الفيتو، لكن وزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر يحذر باستمرار منذ أسابيع من تعرض حلف الأطلسي إلى خطر الانزلاق في المستنقع العراقي، فيما كان المستشار غيرهارد شرودر واضحا في موقفه حين قال إنه من الأفضل أن يجري إقناع دول عربية وإسلامية بنشر قوات تابعة لها لتسهيل هدف تحقيق الأمن والاستقرار في العراق!
وحذر وزير الخارجية الألماني من أن العراقيين سينظرون إلى جنود الأطلسي على أنهم قوة احتلال، ما سيعرض مهمة الأطلسي في العراق في نهاية المطاف إلى الفشل، وسيمنى الحلف العسكري الغربي بهزيمة فادحة تؤثر على سمعته كثيرا.
بوش في أوروبا ومعنى ذلك أن الحديث عن مهمة للحلف الأطلسي في العراق معرض مناقشات بين الأميركيين والأوروبيين. وقالت وزيرة الدفاع الفرنسية ميشيل أليوت ماري إنه ينبغي التعامل بمنتهى الحساسية مع هذه المسألة، لأنه ليست هناك دولة عضو في الحلف تريد فعلا إرسال جنودها إلى العراق.
وفي الشهر الماضي انسحب آخر جندي إسباني من العراق تنفيذا لقرار رئيس الحكومة الإسبانية الجديد ثباتيرو الذي وعد الناخبين قبل فوزه المفاجئ على منافسه خوسيه ماريا أثنار بسحب القوات الإسبانية من العراق. وأمر ثباتيرو ببدء تنفيذ وعده في اليوم الأول لتسلمه منصبه. وكان سلفه أمر بإرسال وحدة مؤلفة من 1400 جندي إلى العراق على رغم أن نسبة 90 في المئة من المواطنين الإسبان كانوا يعارضون مشاركة بلدهم العسكرية في حرب العراق.
وأبلغت وزيرة الدفاع الفرنسية صحيفة «فرانكفورتر الجماينه» الألمانية أن لبلدها شروطا قبل اتخاذ قرار إشراك قوات فرنسية في مهمة أطلسية في العراق، من بينها الحصول من الولايات المتحدة على إجابة واضحة عن السبب الحقيقي لمهمة الأطلسي في هذا البلد وما إذا كانت الحكومة العراقية ستطلب رسميا تدخل (الناتو) ومن هي الدولة التي ستشرف على القيادة العسكرية لقواته. واعتبر المراقبون تصريحات الوزيرة الفرنسية ليست بصورة إعلان رفض المشاركة لكنها لا تدل على وعد بالمساهمة بها.
منذ أن بدأت القوة العظمى تتعثر في العراق لم يعد انتشار قوات أطلسية في هذا البلد حلما عند الأميركان، بل أصبح مثل طوق النجاة الذي يتمسك به الغريق وسط المحيط. ويبلغ عدد الجنود الأميركيين حاليا في العراق 138 ألف جندي وعدهم بوش عند بدء المعارك الرئيسية بتاريخ 20 مارس/ آذار العام 2003 أن يعودوا إلى عائلاتهم خلال أشهر قليلة. وحين تبدو أمام الأميركيين فرصة لإقناع دول الناتو بنشر قوات في العراق عند انعقاد قمة الحلف الغربي في إسطنبول يومي 28 و29 يونيو/ حزيران الجاري فإن آمال الأميركيين ضعيفة بالحصول على موافقة غالبية الدول الأعضاء. وصرح سفير واشنطن في مقر الأطلسي ببروكسل نيكولاس بيرنز منتصف الشهر الماضي أن بلاده واثقة من ضرورة مشاركة الناتو في فرض الأمن والاستقرار في العراق.
لكن ليس هناك ما يوحي حتى اليوم أن هناك صيغة واضحة بشأن إشراك الناتو في مهمة عسكرية في العراق. كما تشير مصادر دبلوماسية في برلين إلى عدم وجود جدول أعمال رسمي لقمة إسطنبول، وهذه علامة على أن القمة مهددة بالفشل. وقال مسئول ألماني إن الأميركيين أذكياء بما فيه الكفاية ويعلمون أنه من المستحسن عدم امتطاء خيل لم تعرض للترويض بعد. ليس هناك دولة واحدة في الأطلسي ترغب في الزج بجنودها في مغامرة لا تبشر معالمها بالخير. ويعزز مخاوف حكومات الحلف العسكري الغربي تنامي أعمال العنف في العراق. بعد أشهر قليلة مضت على العام الأول لغزو العراق انخفض عدد الدول المشاركة في التحالف، وباستثناء الولايات المتحدة وبريطانيا هناك رغبة كبيرة عند الدول الأخرى المشاركة بسحب جنودها من العراق في أقرب فرصة ممكنة. وحين سحبت إسبانيا جنودها لم تصدر انتقادات ضد قرار ثباتيرو بل أعرب كثيرون عن تفهمهم.
وتشير تقارير إلى رغبة النرويج أن تكون الدولة التالية التي تسحب جنودها من العراق بعد إسبانيا، فللنرويج 150 جنديا في مدينة البصرة في حال عدم تسليم السلطة بتاريخ 30 يونيو/ حزيران للحكومة العراقية الانتقالية. وفي بولندا يزيد الخوف يوميا على حياة جنودها العاملين في قوة الائتلاف. لكن بوسع بوش الاعتماد على مؤيدين أيضا داخل الحلف الذين وعدوه بإبقاء جنودهم في العراق طالما تدعو الحاجة إلى ذلك، مثل رئيس الوزراء الأسترالي هوارد ونظيره الدنماركي راسموسن، وطبعا رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو بيرلسكوني. كما ترغب التشيك إبقاء قواتها (مئة جندي) في العراق حتى مطلع العام 2005.
الحكومتان الألمانية والفرنسية اللتان عارضتا الحرب بشدة تنظران بريبة إلى رغبة الولايات المتحدة بزج الناتو في المغامرة العراقية. وأكدت الحكومة الألمانية أنها لن تستخدم حق الفيتو ضد قرار يتخذه الحلف لنشر قوات في العراق، لكن يلاحظ أن وزير الخارجية فيشر عبر عن شكه في فبراير/ شباط الماضي خلال انعقاد المؤتمر الأمني بمدينة ميونيخ عن خطط الولايات المتحدة الهادفة إلى انتشار وحدة تابعة للحلف العسكري الغربي في مناطق تخضع اليوم لحماية قوات أميركية وبولندية. وكرّرت ألمانيا شكها بنجاح مهمة الناتو في تصريحات واضحة صدرت عن شرودر وفيشر، ولوحظ أن ألمانيا تكرر هذه التصريحات كلما زاد الوضع الأمني سوءا في العراق. وكان شرودر صرح بعد زيارة قام بها في منتصف الشهر الماضي إلى بلجيكا أنه لا يتصور أن العراقيين سيستقبلون جنود الناتو بصدر رحب.
حلف شمال الأطلسي فشل في دعوة مجموعة من دول حوض البحر المتوسط لحضور قمة إسطنبول بينها المغرب والأردن، لهدف عرض تعاون الأطلسي معها في إطار مشروع (الشرق الأوسط الكبير) لكن الغرب نفسه فرط في ثقة العرب إذ وجه الناتو دعوة مماثلة لـ «إسرائيل»، لكن المراقبين يقولون إن فضيحة صور تعذيب المعتقلين العراقيين في سجن أبوغريب وتحيز الولايات المتحدة لشارون لا يسمح لأي مسئول عربي في الوقت الحالي أن يجلس بين المسئولين الغربيين.
ويعتقد بعض المعلقين هنا أن قمة إسطنبول مهددة أن تنتهي من دون مقررات جديرة بالاهتمام وسيشعر الأميركيون بالذات مدى صعوبة إقناع دول الناتو بإشراك جنودها في العراق. وتقول برلين إن مشاركة الأطلسي في العراق لن تحسن الأوضاع في هذا البلد. وعندما سئل فيشر: ماذا بوسع جنود الناتو أن يفعلوا زيادة عما يفعله جنود التحالف؟ أجاب: «إنهم سيقدمون خدمات أقل وسيلحق الناتو الخطر على نفسه بنفسه»
العدد 640 - الأحد 06 يونيو 2004م الموافق 17 ربيع الثاني 1425هـ