يقول المثل الإيراني الشعبي: «الفراخ يتم تعدادها آخر الخريف». بهذه الطريقة البسيطة تتعامل الحكومة الإيرانية مع قوات الاحتلال الأميركية - البريطانية على حدودها في العراق.
ويقول مثل إيراني بازاري مشهور: «لا تعين أو تحدد سعرك في أوج حركة السوق!».
وبهذه الطريقة البسيطة أيضا تتعامل الحكومة الإيرانية مع الإدارة الأميركية بخصوص الموقف النهائي من الملف النووي الذي تحاول واشنطن ان تعبئ الموقف الدولي ضد خصمها اللدود في طهران كلما ضافت بها السبل في الشرق الأوسط وبغداد أو كابول. فيما تبدي القيادة الإيرانية «استرخاء» متعمدا تجاه غريمها الأميركي كلما اشتد غضبه أو هاج موقفه السياسي والإعلامي تجاهها ووصل الى أوجه.
فالإيرانيون الذين يعرفون السواق شبرا شبرا بالجغرافية كما بالديموغرافيا، وبالتوزع المذهبي كما بالتوزع الغرقي، وبالتاريخ كما بالمبيتولوجيا، لا يساورهم شك - على ما يبدو - ولو للحظة واحدة بأن كل الذي تخطط له واشنطن في العراق انما سيصب في النهاية وعلى رغم اختلاف الرؤى والنوايا والغايات، في مصلحة عراق معتدل وسطي متوسط «القوة» اصلاحي المنحى مسالم لجيرانه صديق لإيران بالضرورة بالاجمال. وهذا ما يمكن طهران من انتزاعه من دون الولوج في مجابهات حامية مع واشنطن في الوقت نفسه الذي تبقى فيه طهران على مواقفها «الاصوليات المعلنة تجاه ملف العدوان والغزو الأجنبي للعراق.
والإيرانيون الذين يعرفون بالضبط ماذا يريدون من النووي، وماذا تريد واشنطن من «شماعة» النووي الايرانية، تراهم يمضون ببطء ولكن بتقميم وحسم لا يقبل الترديد أو المناقشة في موضوع الوصول الى «اكتفاء ذاتي» نسبي في مجال مؤهلات صناعة الطاقة النووية للاغراض السلمية، بينما ينادوون بـ «دهاء» بخصوص امكان تقديم تنازلات سياسية هنا وهناك واقتصادية ايضا من أجل الابقاء على قناة للتعاون «النووي» مع العالم الغربي بمن فيه الولايات المتحدة الأميركية.
ولما كان الايرانيون يعرفون تماما بانهم ليسوا خيارا كوريا ولا عراقيا وبالتأكيد ليسوا خيارا ليبيا فانهم لا يوجد لديهم ما يخشون خسارته على المدى المتوسط أو البعيد فانهم يقدمون ويستقدمون مزيدا من «التنازلات» في باب البروتوكول الاضافي ومجمل اشكال التعاون مع وكالة الطاقة الذرية مبقين احتمال الهودة عن هذا التعاون «الاختياري» والتطوعي كالسيف المسلط على رؤوس المتشددين في المجتمع الدولي الغربي باستمرار.
ولما كانت واشنطن غير من يعلم بأن طهران في حالتها الراهنة انما هي «نموذج» التعاون الفعال في المجال الدولي العام بالمقارنة مع الخيار الكوري الراهن والعراقي السابق و«نموذج» المقدرة والاقتدار في مجال الممانعة الوطنية والقومية للأمم والشعوب لاسيما اذا ما قورنت بالخيار الليبي.
فإن واشنطن ستظل مجبرة والى أمد طويل للتعامل مع الملف الإيراني بقواعد لعبة القط والفأر التي جذبتها اليها القيادة الايرانية بحسبها وحساباتها البازارية الآنفة الذكر.
لذلك ترى مثلا بانه بمقدار ما يتقدم الأميركي في أفغانستان والعراق باتجاه تثبيت أو ترسيخ حكومة غربية الهوى والهوية في كل من كابول وبغداد أو عملا ببرنامج المشروع الأميركي الطويل الامد المعروف بالشرق الأوسط الكبير بمقار ما تعمل طهران على «تفخيخه» أو هكذا تسعى لجعله «خير الشرين» وهي العارفة تماما بأن مجموع ميزان القوى الاقليمي والدولي لا يسمح مطلقا في اللحظة الراهنة الا بالحكمة التي تقول: «العاقل ليس الذي يستطيع التمييز بين الخير والشر، بل العاقل من يختار خير الشرين».
لست هنا بصدد تقييم الموقف الإيراني الرسمي بقدر ما أحاول وصفه كما هو حتى نفهم المسافة الفاصلة بين ما هو معلن ضد «الشيطان» الأكبر من مواقف مبدأية وأصولية وهي منسجمة مع طبيعة النظام السياسي الحاكم في ايران وبين مجموع السياسات العملية المتبعة من جانب الحكومة الايرانية تجاه الملفين الافغاني والعراقي وهي التي تبدو متناقضة مع الموقف «الأصولي» والمبدأي للنظام الاسلامي الايراني لكنها تبدو متوائمة أو على الاقل غير متصادمة مباشرة مع مجموع المصالح الايرانية القومية الايرانية. الجمع بين ديبلوماسية الممانعة وديبلوماسية التعاون هي المهمة الأكثر ثقلا الملقاة على حكومة الرئيس محمد خاتمي منذ ان «تسلل» الى خيمة المشايخ بعباءة الافندية وهي ديبلوماسية باتت شبه مشروعة في مطبخ صناعة القرار الإيراني وبالتأكيد تلقى قبولا واسعا لدى مختلف الدوائر الاجتماعية سواء على مستوى النخب أو الجماهير.
العارفون بطبيعة المجتمع وهيكلية الدولة الايرانية يؤكدون بان تغير لاجنحة أو فصائل اجنحة الحكم في تركيبة الهرم السلطوي الأعلى لن تغير جوهريا في الآلية صنع القرار في إيران. وبالتالي فإن السياسة الآنفة الذكر ستظل على حالها بل وربما تأخذ مسارات أكثر رسوخا مع الأيام في ظل التغيرات الجارية في عملية انتقال السلطات التدريجي من ايدي ا«لاصلاحيين» الى أيدي «المحافظين» انطلاقا من البرلمان وصولا الى رئاسة الجمهورية بعد نحو عام من الآن وخصوصا اذا ما علمنا بأن «المحافظين» «الجدد» القادمين فيما التجربة العسيرة و«المرة» التي مرت على الاصلاحيين علمتهم كيف ينبغي ممارسة الاصلاح في بلد «محافظ» على خصوصياته القومية
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 639 - السبت 05 يونيو 2004م الموافق 16 ربيع الثاني 1425هـ