العدد 634 - الإثنين 31 مايو 2004م الموافق 11 ربيع الثاني 1425هـ

أشبع أبناءك قبل أن تطعم الجيران

كلمة من أجل الوطن:

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

مرة أخرى يضطرنا موضوع التجنيس إلى الحديث، ليس طلبا للإثارة وإنما لمناقشة هذا الموضوع بهدوء بعيدا عن روح المشاغبة و«الهواش». فمن لا يريد أن نناقش قضايانا بهدوء، إنما يريد القفز على المشكلة بدعس رأسه في الرمال على طريقة النعامة، وهيهات أن تحل مشكلات الأوطان المأزومة بالهروب مثل النعام.

الموضوع ابتدأ بخلاف في الشارع والمجالس والندوات، حتى امتد تأثيره على أول مظاهر المشروع الإصلاحي (الانتخابات)، وانتهى قبل أسبوع بـ «هوشة» في البرلمان. ومع كل ذلك يبقى كل ما حدث، حتى «الهوشة»، ما هو إلا الفاتورة الأسهل، يدفعها هذا الجيل لقاء قرار سابق اتخذ في غيابٍ تامٍ للرقابة الشعبية، من دون مشورةٍ من أحد، ولحساباتٍ لن تصبّ في مصلحة الوطن، وسيعلن الجيل الحالي عجزه عن حلها، كما ذهب إلى ذلك رئيس المجلس خليفة الظهراني في نبرةٍ يغلب عليها اليأس، وبالتالي سيتم «ترحيلها» إلى المستقبل، ليتحمل الجيل المقبل دفع ثمن فاتورتها بالعملة الصعبة أضعافا مضاعفة، على رغم أنوف الجميع.

قضية التجنيس حجة أخرى تضاف إلى قائمة حجج المطالبين بتوسيع دائرة المشاركة الشعبية في القرار السياسي، فليس من المعقول أن يتم اتخاذ قرارات مصيرية تمسّ أمن واستقرار ومستقبل البلد كله اقتصارا على دائرة محدودة. فالقضايا المصيرية من المفروض ألا يتخذها أفرادٌ مهما أوتوا من الخبرة والعقل والدراية، وإنما تطرح على مستوى الشعوب لتقول رأيها فيها، لأنها ببساطةٍ تمس حياتها ومستقبلها. هذه تجارب الأمم المتحضرة فادرسوها لكي نتعلم منها الدروس المفيدة في الحياة بدل أن نقلد الآخرين ونتفوق عليهم فقط في برامج «الأخ الأكبر» وحفلات الطرب المائع الموبوء.

وبصراحة، ليس هناك من مخافة من ردود فعل الجيل الحالي، الذي سيكون تأثره «محدودا» بحركة التجنيس الواسعة التي شهدتها البلاد بعد أن «يبلعها»، ولكن الخوف كل الخوف من الغد، حين تبرز حقائق جديدة على الأرض اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وأخلاقيا، إذ ستحتاج إلى سياسات أخرى لمعالجتها على غير الطريقة التي ألفناها في إدارة خلافاتنا و«صراعاتنا» المحلية طوال الأعوام الثلاثين الماضية.

هناك من يذهب إلى التهويل بضياع «الهوية الثقافية» للبلد، حين يقارن الوضع بوضع الهنود الحمر، وهي مبالغة في غير مكانها، لأن هوية الشعوب المتوارثة عبر القرون، لا يمكن أن تضيع وسط حركة تجنيس في مرحلة من المراحل. والخوف فقط أن ننتهي إلى العيش في «كانتونات» متفرقة ضمن هذه الجزر الصغيرة الراقدة وسط مياه الخليج، وكأن ما بنا لا يكفينا. ومع ذلك تظل هناك مخاطر أخرى سيحبل بها المستقبل، أخذت نذرها تظهر في الأفق من الآن.

حقائق اليوم تستدعي التوقف أمام بعض الأرقام المخيفة، إحداها القنبلة التي فجّرها الظهراني بشأن الرقم الخاص بحركة التجنيس: 120 ألفا، في بلدٍ لا تتجاوز مساحته 700 كيلومتر مربع بعد عمليات ردم البحر، ويعاني من نسبة بطالة كبيرة، وفي ظلّ نسبة نمو سكاني مرتفعة جدا، إذ تبلغ نسبة الكثافة السكانية 1962 نسمة في الكيلومتر مربع، ما انعكس في صورة ازدحام دائم بالشوارع. هذه النسبة من أعلى النسب في العالم كله، فلا يقترب منها إلا قطاع غزة الذي تمنى رابين أن يستيقظ ذات صباح فإذا بها غارقة في البحر، وبنغلاديش التي تغص بسكانها مثل الجراد المنتشر.

بلدنا أصغر بلد عربي، حتى لبنان الصغير أكبر منا بأكثر من عشرين مرة! فالأرض محدودة، والموارد يقال إنها محدودة أيضا، والبلد يعاني من قضية التوزيع غير العادل للثروة، والفساد المالي والإداري أصبح مثل الشبح الذي يظهر للناس في الظلام ويختفي في الضوء! فضلا عن ذلك القنبلة المرعبة المقبلة (100 ألف عاطل بعد 9 سنوات من الآن)، أي أكثر من منتسبي وزارة الدفاع بـ 7 مرات! قطاع الصحة يعاني من مشكلاته المعروفة، الإسكان بدأت الحكومة تفكّر في نفض يدها منه، وقطاع التعليم عاجز عن توفير التعليم الذي يواكب حركة التطور ويلبي حاجة سوق العمل، على رغم مرور أربع وعشرين سنة على تبني خطة العشرة آلاف متدرب منذ أيام الوزير علي فخرو. ووزارة العمل التي تداول على كرسيها خلال هذه الفترة خمسة وزراء، بدلا من أن تبحث عن حلول جذرية لمشكلات البطالة المزمنة، تفرغت في آخر عهودها إلى ملاحقة مؤسسات المجتمع المدني، من جمعيات سياسية وحقوقية مهددة بالإغلاق! أمام هذه المشكلات والهموم الوطنية، كيف جرى التفكير أصلا في «تبني» حركة تجنيس واسعة؟ إذا كنت لا تستطيع إطعام أفراد أسرتك، فكيف تدعو عوائل الجيران إلى مائدتك؟ دول الجوار الخليجي الأكثر منا ثروة، والأكبر مساحة، لم تجرؤ على هذه الخطوة، فكيف أقدمنا نحن عليها بهذه السرعة؟

على مستوى الأسرة البحرينية الحديثة، قد تلاحظون وجود ميل واضح في العقد الأخير إلى تنظيم الأسرة بالحد من الإنجاب والاقتصار على عدد معين من الأبناء، وفقا لمنطق بسيط ومفهوم: «أنجب طفلين وأحسن تربيتهما، أفضل من إنجاب ستة أتركهم عرضة لتربية الشوارع». وهو منطق من الصعب انتقاده، فما هو المنطق الذي يقف وراء القرار الرسمي تبني حركة التجنيس الواسعة النطاق في ظرف زمني محدود؟

بعد عشر سنوات، سنجد أنفسنا أمام وقائع مرّة: كعكة صغيرة، مأكول نصفها، والنصف الآخر يحوم حوله 100 ألف فم جائع، حينها سيقف الأحياء منا ليرددوا قول الشاعر الجاهلي القديم وهو يندب نفسه وأهله ووطنه وقبيلته:

«لم أكن من جناتِها - علم اللهُ - ولكن بحرّها اليومَ صالِ»

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 634 - الإثنين 31 مايو 2004م الموافق 11 ربيع الثاني 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً