العدد 629 - الأربعاء 26 مايو 2004م الموافق 06 ربيع الثاني 1425هـ

الاعتراف بالذنب فضيلة: شكرا سيادة الرئيس

حسن الصحاف comments [at] alwasatnews.com

«لا تدع الحزن يدخل إلى قلبك من جراء هذا، ولا يصيبك الغم والبؤس. لقد منحت القدرة على الحل والربط، وأصبحت النور والظلام لكل الناس. ووهبت سلطانا على الشعب لا مثيل له. وأصبح النصر حليفك في جميع المعارك التي لا ينجو منها أحد، لا مفر من غزواتك وغاراتك. ولكن لا تسئ استخدام السلطة هذه والقوة، عامل الشعب بالعدل، كن عادلا أمام الإله شمش». إنكيدو يخاطب صاحبه جلجامش (ملحمة جلجامش).

فخامة الرئيس جورج بوش الإبن... بادئ ذي بدء نوجه شكرنا الجزيل لاستيائك لما حدث في «سجن أبوغريب» وسجون أخرى تقوم على رعايتها جنود قواتكم المسلحة التي لها بصمة قدم في كل أرجاء الدنيا. إنكم الدولة الأكثر حضورا على الساحة العالمية في جميع المجالات، اللهم لا حسد. ذلك نصيبكم من الدنيا، ونرجو أن يكون نصيبكم نصيبا عادلا في دفاتر التاريخ التي لم يكتبها فقط المنتصرون، بل كتبها كل شرفاء العالم من الكتاب والمؤرخين (مازلت أذكر كيف كان والدكم يرجو أن يكون التاريخ منصفا في حقه حين يتذكره لما حان وقت خروجه من المكتب البيضاوي منهزما)! كما نرجو أن يكون نصيبكم أمام الله العادل الرحيم نصيبا حسنا على نيتكم بما تقومون به، لأننا نؤمن بمقولة: «إنما الأعمال بالنيات» ولا نؤمن بميكافيلية الفكر والفعل القائلة: إن «الغاية تبرر الوسيلة».

سيادة الرئيس: إن النص الذي صدَّرنا به هذه العجالة هو أول نص يُخط في العالم، اقتبسناه من أول ملحمة عرفها العالم كله، وهي من أرض «بلاد ما بين النهرين» (ليسا النهرين اللذين حذرت منهما)، البلد المسمى الآن بـ «العراق» والذي دخلته جيوشكم في العام الماضي بعد أن قصفته بالقنابل والمدفعية ورذاذ البنادق الأرضية وأسقطتم في نهاية الأمر ذلك الرجل الذي جلس على سدة الحكم فيه لما يزيد عن ربع قرن عاث في الشعب كثيرا وأسقط رؤوسا كثيرة وأخذ من مال الدولة كثيرا ووزعه كيفما شاء وأدخلكم معه في معمعة لم تنتهِ بعد ولم ننتهِ نحن منها بعد، ولا نعلم إلى أين ستأخذنا معها بعد.

سيادة الرئيس: شكرا جزيلا لاعتذاركم عما حصل في سجن «أبوغريب». هل تعلم يا سيادة الرئيس أنه في بلداننا التي يضج على أرضها التاريخ الحافل بالإنجازات الانسانية يُفعل أشنع مما فعله جندكم الواقعون تحت ظرف نفسي لا يحسدون عليه، ولكن الفرق الوحيد أننا هنا لا نمتلك الشجاعة على الاعتذار مما نفعل، بل في حقيقة الأمر، نزيد مما نفعل حتى ندخل الرعب ليس فقط على من يختلف معنا في الرأي أو أي شيء آخر، بل حتى يُصيب هذا الرعب أصغر فرد في عائلته وأكبر الأفراد سنا في عائلته، ويصيب كل من له صلة به من قريب أو بعيد. نعم يا سيادة الرئيس، إنه لا يكفينا أن نُعرض الذي يختلف معنا في الرأي إلى كل صنوف التعذيب: تعذيب نفسي بشع (شتائم، تحرش جنسي، تهديد بالسلاح) إلى تعذيب جسدي مجنون (الصعق بالكهرباء، الحفر في الجسد بالأدوات الأكثر ضررا، السجن الانفرادي، والعبث في الطعام المقدم لك وأنت تحت رعايتهم) إلى تعذيب اقتصادي (حرمان من الحصول على وظيفة، تضمن لك العيش بشرف وكرامة).

سيادة الرئيس: إن ما يحصل عندنا فظيع للغاية، ومن المخجل جدا أن يحدث هذا عندنا ونحن على ما عليه من حضارة وثقافة ورجاحة عقل؛ غير أنه ومع علمنا «أن الاعتراف بالذنب فضيلة» فإننا لا نعترف، بل نكابر، ونزيد في ما نفعله من ضخ الألم المبرح حتى نصيب بعضنا بعضا بالغثيان من رتابة الفعل وخساسته. إعلم يا سيادة الرئيس أن أفعالنا ليس فيها ذرة من الإبداع، صدقني لو كان فيها إبداع لما استأنا منها لكون الإبداع يرفعك عن سطح القذارة ويسيح بك في علو الطهارة. بل كل ما نفعله هو إعادة ما فعله المجرمون والحمقى عبر العصور المظلمة التي لا تعترف بإنسانية الإنسان. سيادة الرئيس شكرا لاعتذارك، هذا وإن دل على هذا على شيء فإنما يدل على أنكم في وطنكم تعيشون بحق القرن الحادي والعشرين، قرن العقل.

سيادة الرئيس شكرا أيضا واجب أن نسطره هنا، لاهتمامكم بالقضية الأكثر أهمية للمواطن العربي: «فلسطين»، ذلك البلد المسلوب والمغصوب من أهله. شكرا لتصريحكم بأنكم تؤمنون بعدالة القضية الفلسطينية وتودون أن يأتي اليوم الذي تعيش فيه دولتان جنبا إلى جنب: الدولة الاصلية: فلسطين والدولة المصنوعة أو المصطنعة. سيادة الرئيس شكرا جزيلا لكونكم أول رئيس أميركي يصرح علانية بهذا التصريح؛ غير أن ما نراه على أرض الواقع يخالف ما تصرحون به، ويبتعد به بعد السماء عن الأرض. سيادة الرئيس يبدو أن «المكتب البيضاوي» ليس فيه جهاز تلفاز، بل فيه مما لا يحصى عدده من أجهزة مراقبة؛ من حقكم أن تأخذوا احتياطاتكم حتى لا يصيبكم مكروه. سيادة الرئيس نرجو أن تشاهدوا ما يجري على الساحة من قتل لأطفال وتشريد لعجائز، وقلع لأشجار الزيتون المقدسة واقتلاع للمساكن التي لو تركت لشأنها لسقطت على أصحابها لقدمها ولتقهقر جدرانها من جراء القصف المتواصل لقوات الاعداء.

سيادة الرئيس: لا علم لي إذا ما كنت تُزود من قبل مستشاريك بما يحصل على الساحة الفلسطينية، ولا علم لي إذا ما تأتيك المعلومات من أخلص الخلصاء لك من خارج «البيت الأبيض»، غير أني أعلم أن المواطن الأميركي الذي عرفته عن قرب لا يترك وطنه ورئيسه في عتمة فقدان المعلومات والجهل بما يجري من حوله. المواطن الأميركي الذي أعرفه يسهر حبا على وطنه وهو يكتب للبيت الأبيض عن كل شيء يرى أنه يمس وطنه الذي منحه الحرية ومنحه حدود السماء ومنتهاها. لابد أن هذا المواطن الذي أعني قد كتب لك مباشرة وليس عن طريق وسائل الاعلام ولا لوحات الاعلانات التي تمتلئ بها الشوارع والميادين ولا لافتات المناهضين للحرب ولا على ضفاف الشبكة عن ما يجري في هذا الجزء من العالم.

سيادة الرئيس: إن ما يجري عندنا يحتاج إلى عناية قصوى، أبناؤنا وبناتنا في الشوارع مخضبون بدمائهم فكرا وجسدا وهم بحاجة إلى الدخول إلى غرفة الانعاش لتلقي الدواء العاجل والفاعل. سيادة الرئيس نحن قوم شجعان جدا، تاريخنا مليء بصور الشجاعة. أنبياؤنا شجعان، عشاقنا شجعان، شعراؤنا شجعان، رعاتنا شجعان، بحارتنا شجعان، أطفالنا شجعان، شيوخنا شجعان ولن أنسى أن أذكر لك أن نساءنا اللواتي تحاول تمكينهن شجاعات إلى أقصى حد من الشجاعة. سيادة الرئيس إليك ما قال العرب في الشجاعة:

«إعلم أن الشجاعة عماد الفضائل ومن فقدها لم تكمل فيه فضيلة ويعبر عنها بالصبر وقوة النفس. قال الحكماء وأصل الخير كله في ثبات القلب والشجاعة عند اللقاء على ثلاثة أوجه: الوجه الاول إذا التقى الجمعان وتزاحف العسكران وتكالحت الاحداق بالأحداق برز من الصف إلى وسط المعترك يحمل ويكر وينادي هل من مبارز. والثاني إذا نشب القوم واختلطوا ولم يدر أحد منهم من أين يأتيه يكون رابط الجأش ساكن القلب حاضر اللب لم يخالطه الدهش ولا تأخذه الحيرة فينقلب تقلب المالك لأموره القائم على نفسه. والثالث إذا انهزم أصحابه يلزم الساقة ويضرب في وجوه القوم ويحول بينهم وبين عدوهم ويقوي قلوب أصحابه ويرجي الضعيف ويمدهم بالكلام الجميل ويشجع نفوسهم فمن وقع أقامه ومن وقف حمله ومن كبا به فرسه حماه حتى ييأس العدو منهم وهذا أحمدهم شجاعة. وعن هذا قالوا إن المقاتل من وراء الفارين كالمستغفر من وراء الغافلين ومن أكرم الكرم الدفاع عن الحرم».

سيادة الرئيس: كلمة أخيرة، تذكر كتب التاريخ أنه أذكيت نار الحرب بين العرب والفرس زمنا والسبب العبث كما حصل في السجون عندنا وعند غيرنا، فإليك بيت الشعر الذي قالته «ليلى بنت لكيز» والتي بسببها أذكيت نار الحرب:

قيدوني غللوني ضربوا

ملمس العفة منى بالعصا

إعلم يا سيادة الرئيس، أن الدولة التي تقف جنودك على أرضها اليوم لتحقيق الديمقراطية فيها صنعت أول سفينة لإنقاذ البشرية من الضياع والاندثار، نرجو أن لا تضيع هذه الدولة في معمعة عمى الانتقام والجهل. ليس لنا هنا إلا أن نصرخ عاليا وطويلا: وا أمتاه، وا أمتاه، وا أمتاه. راجين أن ينتبه العالم لها

العدد 629 - الأربعاء 26 مايو 2004م الموافق 06 ربيع الثاني 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً