الدولة التي لا تحترم قوانينها ونظامها الذي تضعه، لا تستحق وصف الدولة القانونية أو دولة المؤسسات. وما يميز الدول المتقدمة عن الدول المتخلفة هو احترام الأولى للقوانين التي تضعها، ومدى تطبيقها لها، وتطابق تلك القوانين مع أرقى ما وصلت إليه الحضارة والفكر الإنساني، من المواثيق والمبادئ العامة، سواء الصادرة من الهيئات الدولية أو تلك المنبثقة من المؤتمرات الدولية، أو من نتاجات الفلاسفة والمفكرين. وتتساوى في ذلك علاقة الدولة مع الأفراد، أو علاقة المؤسسات والهيئات بعضها ببعض في الدولة ذاتها، أو في العلاقات مع الدول الأخرى. وسنعرض لعلاقة المحافظات بالبلديات وذلك بناء على ما جرى حديثا على أرض الواقع في مملكة البحرين، والتي نريدها مملكة دستورية ودولة مؤسسات وقانون.
المحافظات والبلديات من الخلخلة إلى الحلحلة
إن حل النزاعات وتفكيك أوجه التشابه في الصلاحيات والاختصاصات بين المؤسسات هو السبيل الوحيد لصناعة دولة نظامها المؤسساتي قوي، ويحكمها القانون. وفي البحرين تحديدا، فإن مسألة التداخل في الاختصاصات والصلاحيات فيما بين المحافظات والبلديات، لها أثر سلبي في خلخلة وإعاقة المشروعات التنموية والاستثمارية، ومثالنا في ذلك هو ما جرى أخيرا بشأن استثمار الأرض المقابلة لقلعة عراد، من أجل مشروع القرية التراثية المزمع إنشاؤها في تلك المنطقة، وما ذلك إلا استمرارا لمسلسل «سحب» الصلاحيات والاعتداء على اختصاصات البلديات التي أصبحت «مشاعة» لجميع الوزارات والهيئات والإدارات في المملكة.
وعلى رغم اللقاء الذي تم بين وكيل الإعلام ومدير عام البلدية، والاتفاق المبدئي بينهما على وضع الخطوط العريضة، واستعراض خرائط المشروعات المزمع إنشاؤها في منطقة القلعة والمناطق المحيطة بها، والتوصية بدراسة المنطقة من طرف البلدية - وقد تم نشر هذا الخبر في الصحافة المحلية الأسبوع قبل الماضي، أي قبل لقاء المحافظ بالمستثمرين - فإن المحافظة، وكعادتها في تبني مشروعات الآخرين، قفزت على لقاء طرفي العلاقة بالمشروع، و(جلبت) مستثمرين من قطر عربي، لمعاينة المنطقة ذاتها التي اتفق عليها الطرفان (الإعلام والبلدية)!
وبما أن المشروع الذي تمت مناقشته بين الجانبين، الإعلام وهي الجهة المشرفة على قطاعي السياحة والتراث، والبلدية ممثلة بجهازها التنفيذي، على اعتبارها الإدارة المحلية للمنطقة في المحافظة، والتي تدخل في نطاقها، واقعا وقانونا، جميع المشروعات العمرانية والاستثمارية التي تقع في محيط الحدود الجغرافية للبلدية، والبلدية أيضا هي الجهة التي تمتلك الاختصاصات الأصيلة والإشرافية والرقابية، واختصاص المتابعة، والاختصاصات الاستشارية الوجوبية، والاختصاص الأخير، معناه أنه «يتعين على الأجهزة الحكومية المركزية المختصة استطلاع رأي المجلس البلدي بشأنها» كما هو تصريح وزير البلديات السابق، والبلدية - هي أيضا - الجهة التي تستشار (استشارة وجوبية) أو توافق على أي مشروع يقع في نطاقها، وهي التي تضع المعايير التي على أساسها تمنح التراخيص لأي مشروع يقع في نطاق اختصاصها؛ كما سنوضح ذلك لاحقا من مواد القانون. على ما تقدم، نتمنى من المحافظين عدم «مزاحمة» البلديات في اختصاصاتها، ويجب ألا تترك العلاقة بين المحافظات والبلديات عائمة هكذا وتعتمد بشكل أساسي على العلاقات الشخصية، والأخيرة ليس لها نصيب في دولة المؤسسات والقانون.
المحافظات والبلديات... وحكم القانون
وقد جاء القفز على اختصاصات وصلاحيات البلديات، ومحاولات سحب اختصاصاتها وصلاحياتها، وخلق حال من العلاقة المزدوجة مع المستثمرين، بما وصل إلى الدرجة التي لفتت نظر سمو رئيس مجلس الوزراء، والذي أمر مشكورا، بأن يعاد دراسة قانون المحافظات، ومع ذلك فإن قانون المحافظات لم ينص على أن المحافظة هي جهة اختصاص بالمشروعات الاستثمارية في المحافظة، ولسبر أغوار العلاقة جيدا يتحتم إعادة قراءة قانون رقم (17) لسنة 2002م بشأن نظام المحافظات، وتحديدا المواد الآتية: المادة (2) «... وتدرج الاعتمادات المالية الخاصة بالمحافظة ضمن موازنة الدولة وتضاف إلى موازنة وزارة الداخلية» والمادة (16) «يقدم المحافظ إلى وزير الداخلية تقريرا شهريا وآخر في نهاية كل عام» والمادة (17) «يرأس وزير الداخلية اجتماعا للمحافظين مرة كل ثلاثة أشهر...» والمادة (18) «يصدر وزير الداخلية القرارات اللازمة لتنفيذ هذا القانون». وعلى ذلك، فما هو اختصاص وزارة ووزير الداخلية في مشروعات الاستثمار؟ وتحت أي بند من بنود المهمات في وزارة الداخلية تدرج مثل تلك المشروعات؟ إضافة إلى أن الصلة القانونية، والواقعية، والمنطقية منقطعة عما تريد وصله أو إيصاله المحافظة الموقرة بالمشروعات الاستثمارية.
وبناء على ذلك، فإن اختصاص المشروعات الاستثمارية ودراستها، وتقديم تقارير عنها، هو من اختصاص البلدية (الجهاز التنفيذي) واقتراحها والمشاركة فيها وإقرارها والإشراف والرقابة عليها هو من اختصاص البلدية (المجلس البلدي)، هكذا نفهم القانون والذي جاء نصه بالعربية، وليس بلغة (البشمركة) وهيلمان مجالس (البرستيج) الزائد عن اللزوم، أو مجالس الرفع والكبس على طريقة لاعبي الكرة الطائرة!
ولكي يكون الكلام باردا على قلب المتلقي، فإن استنادنا هنا ليس من فراغ بل من النصوص القانونية، فقد نصت اللائحة التنفيذية لقانون البلديات رقم (35) لسنة 2001م وفي المادة (14) منها على:
أ- اقتراح الأنظمة الخاصة بتنشيط السياحة والإشراف على المناطق الأثرية وتنظيم زيارتها ومنع ما قد يقع عليها من تعديات.
ب- اقتراح الأنظمة الخاصة لتهيئة المناخ المناسب لمشروعات الانفتاح الاقتصادي بتسهيل الإجراءات الخاصة بالاستثمارات والمشروعات الخاصة وإعداد المرافق العامة اللازمة لها.
والكلمات الواردة في الفقرتين السابقتين «يستحسن» قراءتها من قبل شخص عربي وليس (بشمرغي) اللغة أو (توتسي) اللهجة ذلك كي يفهم معناها جيدا، فكلمات «تنشيط السياحة» و«الإشراف» و«منع ما قد يقع عليها من تعديات» و«تهيئة المناخ» و«بتسهيل الإجراءات الخاصة بالاستثمارات والمشروعات الخاصة» و«إعداد المرافق العامة»... كلها كلمات أكثر من معبرة عن المعنى، وجاءت في قانون البلديات ولا نجد لها مكانا في قانون المحافظات! وتأسيسا على ذلك، يجب ألا يغرد المسئولون خارج سرب الالتزام بالدستور والقانون، وضمن الإطار العام لخطط الدولة التنموية ومشروعاتها الاستثمارية، وضمن سياسة جلالة الملك، فجلالته يوجه إلى الاستثمار والانفتاح الاقتصادي، وفي إطار الدستور والقانون، وتبقى الدراسة، وتقديم النتائج والتنفيذ والإشراف والمراقبة، كل ذلك يجب أن يكون ضمن «السيستام» القانوني والاختصاص المهني للوزارات والقطاعات والهيئات والأجهزة في المملكة، وليس بحسب الأهواء والأمزجة، بل بحسب الدستور والقانون، ذلك إذا ما أردناها مملكة دستورية، ومؤسساتية قائمة على حكم الدستور والقانون
إقرأ أيضا لـ "محمد العثمان"العدد 628 - الثلثاء 25 مايو 2004م الموافق 05 ربيع الثاني 1425هـ