في الكويت غصت جمعية الخريجين الكويتية مساء الثلثاء الماضي بما أعتبره «ممثلي الفئات الوسطى» من المجتمع الكويتي، وواضح من الكلمات التي ألقيت في الحفل الخطابي الحاشد، والتعليقات التي سمعتها من عدد منهم خارج مراسيم الحفل المنظم، أن هذه الفئة الواسعة من الناس العاديين في الكويت تعلن ولاءها لوطنها التي تعرف، كما تعلن في الوقت نفسه نفاد صبرها من الاجراءات التي تريد أن تفرضها فئة أخرى عليها وتعتبرها «رغبة المجتمع» غير المنازعة.
تحدث الرجال والنساء، بعضهم بعفوية بالغة البساطة والوضوح، إن ما يراد أن يفرض على المجتمع الكويتي، من تقليص للحريات، ليس موضوع ترحيب على الإطلاق، بل هو شأن يثير الغضب والمعارضة.
عادة ما تكون الفئات المتوسطة من الناس آخر من يتذمر في أي مجتمع، لأنها فئة من مصلحتها حل القضايا العالقة بالحسنى، وعندما تتذمر هذه الفئة في أي مجتمع فإن ناقوس الخطر لدى المسئولين يجب أن يُقرع وبشدة.
القضية ليست هي «حفل ستار أكاديمي» الذي تم في الكويت منذ أسابيع، ولو انه الشرارة التي أطلقت كل هذه التداعيات، إنما القضية هي استجابة الحكومة الكويتية لمثل هذا الضغط بالهروب إلى الأمام، وكنس المشكلات تحت بساط التأجيل والتسويف، بدلا من التصدي للدفاع عن المصالح العامة للمجتمع، على رأسها الدستور، الذي بدلا من توسيع العمل به وتطبيق فلسفته في تمكين المجتمع من المزيد من الحريات، وهي التي يجري تقليصها، ويسمح للبعض بالقيام بقضم أطرافها حتى يبدو الدستور بعد فترة وثيقة لا معنى لها ومفرغة من محتواها.
القرار الذي سُمي اليوم في أدبيات الكويت «ضوابط الحفلات» قرار معيب قانونا ودستورا، ومقلص لحريات الناس، لا لأنه قرر بعض الضوابط غير العملية، ولكن أيضا لأنه استخدم في مرجعيته نصوصا دستورية استقرت في ضمير المجتمع، على أنها قواعد عامة ومشتركة وأصيلة، مقرونة بفتوى صادرة من جهاز الفتوى في الدولة، والمقارنة هنا هي المفارقة الحقيقية، فكيف يقاس المصدر الذي توافق عليه المجتمع بفتوى لقلة مهما أوتيت من حكمة؟ ثم كيف يمكن وضع فتوى صادرة من بضعة أفراد قد يصيبون وقد يخطئون، جنبا إلى جنب مع نصوص دستورية يحلف كبار المسئولين في الجهاز التنفيذي التشريعي على صيانتها عند تسلمهم مسئولياتهم؟
كما أن اللجوء إلى الفتوى، وهي اجتهاد لا أكثر، لجوء لا مبرر له، وخارج عن الأعراف الدستورية المتفق عليها، وإذا كان تسيير المجتمع بالفتوى فما فائدة وعمل المجلس المنتخب، وكل ما عرف من استقلالية السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في المجتمع الحديث، ثم من يقوم بالفتوى ولأي غرض؟
إذا كانت الفتوى - سأل كثيرون - هي المرجعية المرجحة في العمل العام، فعلينا إغلاق المجلس المنتخب والتخلي عن مؤسسات الدولة الحديثة، واعتماد الفتاوى في أغراض تسيير الدولة والمجتمع.
لقد ساعدت السلطة نفسها بتوسيع دائرة الشك في الثوابت الدستورية، والطرق الدستورية لسن القوانين، عندما أشركت معها قوة أخرى في المجتمع هي قوة «الفتوى» فأصبح شبابنا يلجأون إلى هذه الفتوى من اجل تبرير ما يريدون القيام به، من دون حرج لأن مبرراتهم موجودة.
السلطة التشريعية دورها في المجتمع الحديث هو وضع القانون، وتقوم السلطة التنفيذية بأدواتها المعروفة بتنفيذه، وتقوم السلطة الثالثة (القضائية) بالفصل فيما يختلف عليه في المجتمع، تلك هي قواعد الدولة الحديثة.
الفتوى هي رأي آخر، هي في شئون الدين وخاصة بالعبادات في الغالبية، أو ربما بشئون الأسرة أو ما اصطلح عليه «الأحوال الشخصية»، وهو اصطلاح أعطي للقوانين الأسرية من قبل الدولة العثمانية طلبا للإصلاح القانوني، قبل أكثر من قرن من الزمان، واعتبر خاصا بالأفراد لا الدولة حينذاك، ومع ذلك لقد تغير الزمان، واختلف المكان منذ ذلك الوقت حتى اليوم.
الفتوى يجب ألا تطلب في مسائل سبق أن نظمها القانون الذي رضي به المجتمع، كما أن الفتوى لا تصبح ملزمة إلاّ في حال تحولها إلى قانون يرضى به المجتمع من خلال المؤسسات التي ارتضاها، كمؤسسات تشريعية.
الفتوى في المسائل الدنيوية لا تعدو أن تكون رأيا يؤخذ به أو لا يؤخذ، ولقد فاقم الأمر ما نشر من أن عددا كبيرا من أعضاء المجلس قد «ناشدوا» ثلاثة أعضاء منهم، حتى لا يقدموا استجوابا لوزير الإعلام محمد أبو الحسن، على خلفية حفل ستار أكاديمي! وهو أمر غير مسبوق في أي من تجارب الأنظمة الديمقراطية، لا الغربية ولا في العالم الثالث، أن يتداعى عدد بهذا الحجم من الأعضاء «اثنان وعشرون» فهم يستطيعون نظريا بهذا العدد أن يغيروا الحكومة ويوقفوا المشروعات الاستجوابية في ساحة البرلمان، لا مناشدة ثلاثة أشخاص لهم رأي مخالف، ماذا يعني هذا الأمر غير التفسخ في العمل البرلماني، وضعف غير مسبوق في اتخاذ القرار الحكومي تجاه كل هذه التهديدات، وسوء فهم بالغ للعبة الديمقراطية الحديثة، وخضوع للعوام؟
الخلط المتعمد بين القوانين الملزمة وبين الفتوى ليس جديدا، ولعل المثال الأوضح حدث في الكويت عندما قُتل عدد من الجنود الأميركان، قبل عدة أشهر، حينها لجأت السلطة إلى إحياء أو تذكير المجتمع بفتوى عدم جواز قتل غير المسلم، في بلاد أعطى ولي الأمر فيها للآخرين، أيا كانت ديانتهم، الأمان.
حقيقة الأمر أن القانون العام والقوانين المنظمة للدولة الحديثة لا تقبل بالقتل وتعاقب عليه بحسب القوانين المرعية، بصرف النظر عن دين القاتل أو القتيل أو جنسيته أو جنسه، إلا أن التذكير بهكذا فتوى وقتها، وعودة إلى فتوى أخرى لاحقا في الضوابط، هو أولا الاعتراف بأن قوة الردع قد تأتي من الفتوى قبل القانون، وفيها إضعاف ضمني للقانون المرعي، وثانيا الاعتقاد بأن هناك شرائح في المجتمع تستمع إلى الفتوى، قبل أن تحترم القانون، وهذا يقلل من دور الدولة الحديثة، بل ويعرض مؤسساتها للخطر الداهم.
وحدهم على الحق
ثم يأتي صدور اقتراح الحكومة بتمكين المرأة الكويتية من حقوقها في الوقت الذي تصدر فيه «الضوابط»، وإن استمر الأمر بالآلية نفسها، فستحتاج الدولة إلى «فتوى» تقول إن للمرأة حقوقا إنسانية وسياسية، كما نحتاج إلى حملة توقيعات من بعض الأعضاء أو غالبيتهم ليناشدوا الرافضين لحقوق المرأة تغيير موقفهم!
إن كان لقائل إن تمكين المرأة الكويتية من حقوقها السياسية خارج عن الإسلام فهو لا يعرف بالتأكيد مقاصد الشريعة الإسلامية السمحاء التي تتضمنها الكتب الكثيرة لأهل الرأي والثقة، وهو لا يعرف أو يعترف بالمتغيرات، وكما يناقض أيضا ما جرى عليه المسلمون اليوم من تركيا إلى إيران، ومن مصر إلى تونس، إلى المغرب مرورا بعشرات، بل بكل الدول الإسلامية التي تجري فيها انتخابات، هل كل هؤلاء المسلمون لا يعرفون الإسلام، وبعض فئة متجمدة التفكير تفسر ما تعرف على انه الحقيقة المطلقة، وأنهم على حق مطلق وغيرهم على باطل مطلق، إلى درجة قربهم من تحقيق القاعدة الاجتماعية المعروفة، الاستئثار الكامل يؤدي إلى خسارة كاملة.
بودي أن تقوم الحكومة الكويتية بشجاعة، ان حدثت تلك المعوقات، وتداعي أعداء الحرية لوأد الخطوة الحضارية في تمكين المرأة، بحل البرلمان وإصدار تمكين المرأة الكويتية من حقوقها المشروعة بمرسوم أميري، ثم الدعوة لانتخابات جديدة بعد تعديل الدوائر لتصبح أكثر ديمقراطية وعدلا. بعد ذلك سنرى ويرى الجمهور منْ من هؤلاء السادة المعارضين يمتنع عن ترشيح نفسه، لأن احتمال أن تنتخبه امرأة احتمال قائم! ساعتها سنرى الحق مطبقا، فان عادوا إلى الترشح تبين أن مواقفهم هي مواقف مرتبطة بمصالح لا شرائع، وان امتنعوا فقد قدموا خدمة للديمقراطية.
غربة الخريجين
أكثر ما لفت نظري في اجتماع الخريجين قبل أسبوع أن الكثيرين ممن حضروا يشعرون بألم وغربة في وطنهم، واشد أنواع الغربة أن يستشعر المواطن انه غريب في وطنه، كانوا يعرفون مجتمعا منفتحا ومتسامحا، فأصبحوا يعيشون في مجتمع يسير إلى الانغلاق، ويميل إلى التعصب. كانت الوجوه تقول ذلك، والألسن تعبر عنه. أنها الفجوة التي تحتاج إلى ردم، وردم الفجوة بين العجب والغضب يحتاج إلى عمل، لقد تحول العجب مما يدور من تشدد والذي شاهدته الطبقة الوسطى المتعلمة الكويتية، إلى غضب وهو ما جعل الناس تتدفق لشهود يوم الثلثاء، ففقدت أو اقتربت من فقدان صبرها، إلا أن رسالة الثلثاء الماضي تقول لمن يريد أن يقرأ ان الحريات لم تعد يتيمة
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 627 - الإثنين 24 مايو 2004م الموافق 04 ربيع الثاني 1425هـ