لم يصدق ركاب الباص البرليني رقم 100، عيونهم يوم الاثنين الماضي حين شاهدوا الرجل الطويل القامة الذي كان يرتدي سترة صيفية أنيقة وهو يستقل الباص أمام محطة حديقة الحيوان، ويطلب تذكرة ثم راح يبحث عن مقعد خال. كان في الحقيقة هورست كوهلر المرشح للفوز يوم الأحد المقبل بانتخابات الرئاسة الألمانية. وقال كوهلر للركاب الذين لحقت بهم دهشة إنه يريد أن يتفرج على المدينة. كوهلر البالغ 61 عاما من العمر يعلم أنه يملك فرصة كبيرة بخلافة الرئيس الحالي يوهانيس راو، وهذه البادرة التي قام بها قبل أيام قليلة على اجتماع ما يسمى مجلس الأمة في برلين لاختيار أحد المرشحين، كوهلر الذي رشحه الاتحاد المسيحي والحزب الليبرالي المعارضان، وغيزيني شفان التي رشحها الحزب الاشتراكي الديمقراطي الحاكم وشريكه الصغير حزب الخضر، يأمل المدير السابق لصندوق النقد الدولي أن يؤكد للمواطنين الألمان أنه سيكون بينهم، بين وقت وآخر في حال انتخابه رئيسا للبلاد.
تتمثل فرصة فوز كوهلر في عاملين: أولهما أن انتخاب رئيس الجمهورية الألمانية لا يتم بطريقة مباشرة من قبل الشعب، ولكن من قبل مجلس الأمة وهذا عبارة عن أعضاء البرلمان الاتحادي ونواب من برلمانات الولايات، إضافة إلى عدد من شخصيات المجتمع من فنانين ورياضيين يحصلون على دعوة خاصة للمشاركة بعملية التصويت. في العام الماضي ظهرت مناقشات جديدة بشأن طريقة انتخاب رئيس الجمهورية لكن الأصوات التي طالبت بأن يجري انتخاب الرئيس مباشرة من قبل الشعب لم تحصل على آذان صاغية. ولو كان يجري العمل بطريقة الانتخاب المباشر لترجحت كفة غيزيني شفان، إذ كشفت عملية استطلاع أجرتها مؤسسة استطلاع الرأي (أمنيد) لحساب صحيفة «دي فيلت» الصادرة في برلين قبل أيام أن غالبية الألمان يفضلون شفان رئيسة الجامعة الألمانية البولندية والبالغة 60 عاما من العمر. ثانيا: ان المعسكر السياسي الذي رشح كوهلر يملك الغالبية في مجلس الأمة وذلك بزيادة 19 صوتا. ويبلغ عدد المشاركين بانتخاب الرئيس 1205 أشخاص. على رغم أن منصب الرئيس بغض النظر عن أنه الممثل الأعلى للدولة فإنه لا يملك نفوذا على السياسة لأن هذا من واجب البرلمان والمستشارية لكنه يوجه ويبدي رأيه بمختلف القضايا التي تهم البلد. وتمسك يوهانيس راو أيضا بهذا التقليد وفي آخر خطاب ألقاه في إطار(خطاب برلين) السنوي لفت انتباه السياسيين في الحكم والمعارضة أنه يلاحظ اتساع الهوة بين أهل السياسة والمواطنين العاديين، مشيرا إلى سوء توضيح القرارات السياسية وصنع القرارات بصورة لا تدل على أنه يجري الأخذ برأي المواطنين. وكان راو(73 عاما) قرر عدم ترشيح نفسه لولاية ثانية في قصر بيلفو بسبب حاله الصحية، وقال إنه اتخذ هذا القرار بعد طول تفكير واستشارة أفراد أسرته. لكن شائعات ذكرت أن المستشار الألماني غيرهارد شرودر أقنع راو بإنهاء المناقشات التي كانت تطرح احتمال إعادة ترشحه كي لا يعرض الائتلاف الاشتراكي الأخضر الحاكم إلى هزيمة معنوية في العام الذي يشارك فيه الناخبون الألمان في ثلاثة عشر عملية انتخابية، بينها انتخابات البرلمان الأوروبي في يونيو/ حزيران المقبل. وتعبر كل معركة انتخابية عن المنافسة الحامية الوطيس على السلطة في برلين بين الائتلاف الاشتراكي الأخضر الذي يتزعمه شرودر والذي تسلم السلطة في أكتوبر/ تشرين الأول العام 1998 وبين المعسكر المسيحي المحافظ وحليفه الحزب الليبرالي. ويتمنى شرودر أن تنقلب الأمور عكس ما يتوقعه المراقبون يوم الأحد المقبل وأن تكتب الغلبة لمرشحة الاشتراكيين والخضر غيزيني شفان كي لا يستغل المحافظون والليبراليون نتيجة فوز كوهلر في دعايتهم التي تقول إنهم بصدد استعادة السلطة. وكان المحافظون والليبراليون قد تشاركوا السلطة مدة 16 عاما متواصلة تحت قيادة المستشار السابق هيلموت كول. وهذا ما تعمل به الأستاذة الجامعية شفان التي بدأت في المرحلة الحاسمة لانتخابات الرئاسة حملة مركزة لكسب تأييد أعضاء مجلس الأمة وخصوصا النساء. وظهرت إعلانات في صفحة كاملة في عدد من كبريات الصحف الألمانية يوم الأربعاء لتشعر الألمان بمرشحة الاشتراكيين والخضر، وطلب دعمها في إطار حملة واسعة النطاق لإقناع أعضاء مجلس الأمة الذين لم يتخذوا قرارهم النهائي بأن يختاروا امرأة في أعلى منصب في الدولة. أما كوهلر فإنه فضل قضاء الأيام الأخيرة في مناطق جبال الألب الشفابية في أقصى الجنوب راكنا إلى أن عملية الانتخاب يوم الأحد المقبل ستكون أحادية الطريق. لكن غيزيني شفان لا تريد الاستسلام بسهولة وهي سعيدة كونها تسهم في جعل انتخابات الرئاسة الألمانية التي تكون عادة مملة، موضع اهتمام المواطنين الألمان. كما تستغل شفان حملتها للتركيز على دور المرأة في ألمانيا وأهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه في تسيير أمور الدولة. ويلاحظ المراقبون كيف أن شفان التي لم يسبق أن ذاع صيتها في البلاد قبل أن يرشحها الاشتراكيون والخضر لخلافة الرئيس راو، حصلت على دعم من 900 شخصية محلية معروفة من مرافق الثقافة والعلوم والسياسة، بينهم شخصيات نسائية بارزة مثل يوتا ليمباخ رئيسة معهد غوته والرئيسة السابقة للمحكمة العليا وكذلك هلدغارد هامبروخر السياسية الليبرالية المخضرمة ورئيسة اتحاد النساء الليبراليات البالغة 82 عاما من العمر وعلى رغم أنها استقالت من الحزب الليبرالي تعبيرا عن احتجاجها على صمت الحزب على السياسي الراحل يورغين موليمان بعد أن وجه انتقادات قوية لرئيس الوزراء الإسرائيلي شارون، والتي سبق أن اعتلت حلبة المنافسة على منصب الرئاسة في العام 1994 أمام الرئيس السابق رومان هيرتسوج. أما كوهلر فيجد بين أسماء المؤيدين له شخصيات مثل رئيس اتحاد أرباب العمل ديتر هوندت ورئيس اتحاد غرف التجارة والصناعة الألمانية ميشائيل راغوفسكي ورئيس شركة إرنست آند يانغ المختصة بتقديم المشورى للشركات هربرت مولر. لكن هناك أيضا معسكر من معارضي انتخاب كوهلر. فقد شهدت برلين يوم الثلثاء مظاهرة احتجاج دعت إليها منظمات مناهضة للعولمة حذرت من انتخاب كوهلر ولفتت إلى النتائج السلبية على دول الجنوب بسبب السياسة التي اتبعها المدير السابق لصندوق النقد الدولي. لكن الاعتماد على مساعدة من مختلف الشخصيات لن يفيد أي من المرشحين، ففي النهاية سيقرر أعضاء مجلس الأمة من يخلف راو في قصر بيلفو وهناك فرصة ضئيلة بأن يكتب النجاح لغيزيني شفان في ترجيح كفتها بسبب الفارق المتوافر من الأصوات لصالح مرشح المعسكر المحافظ الليبرالي. وبعثت هامبروخر رسائل إلى جميع النساء اللواتي يحق لهن المشاركة في انتخاب رئيس البلاد داعية إلى دعم المرشحة شفان، وقالت في رسالتها أن غالبية المواطنين الألمان يريدون امرأة في هذا المنصب. ونبهت هامبروخر في رسالتها إلى الأخذ في الاعتبار ما هو مدون في القانون الأساسي حول حرية الانتخاب وفقا لما يمليه الضمير. وقالت إن انتخاب شفان سيشكل انعطافة إيجابية لصالح الحركة النسائية في ألمانيا. وأوضحت هامبروخر أن الرسائل التي وجهتها إلى الناخبات هي آخر فرصة متاحة لإقناعهن بانتخاب شفان.
الاستراتيجيون في معسكر الائتلاف الحاكم يعرفون أن تعرض شفان للهزيمة بصورة واضحة ستكون إشارة سلبية لتقدم شعبية المعسكر المحافظ الليبرالي المعارض في عام يعج بالعمليات الانتخابية. في الوقت نفسه يأمل البعض في المعسكر الحكومي من أن تكتشف زعيمة المحافظين أنجيلا ميركل أنها اختارت رجلا غير مناسب لمنصب الرئيس لأنه أدلى بتصريحات معارضة لموقف ميركل وخصوصا تجاه حرب العراق. حين تؤيد ميركل حرب العراق وتلتزم الصمت حيال تعذيب معتقلين عراقيين في معسكرات الاعتقال الأميركية، وصف كوهلر حرب العراق بأنها خطأ وطالب بمعاقبة المسئولين عن تعذيب المعتقلين العراقيين وسبب الحرج لميركل. لكن كوهلر الأوفر حظا لديه مشكلات أخرى تمس كل مواطن عادي إذ إنه يحتاج بعد عودته من واشنطن إلى مقر للإقامة في ألمانيا ويفضل أن يكون قصر الرئاسة. وقد رفضت شركة لبيع أجهزة الهاتف الجوال بيعه هاتفا لأنه ليس له مقر إقامة دائم في ألمانيا
العدد 624 - الجمعة 21 مايو 2004م الموافق 01 ربيع الثاني 1425هـ