العدد 622 - الأربعاء 19 مايو 2004م الموافق 29 ربيع الاول 1425هـ

من لا يقرأ يفهم

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

من يستطيع أن يقرأ السياسة الأميركية يستطيع أن يفهم ماذا تريد واشنطن من المنطقة؟ المشكلة ليست في الفهم وإنما في القراءة. فالسياسة الأميركية متخبطة أصلا منذ بدء عهد الرئيس جورج بوش، وازدادت تخبطا بعد اندفاع واشنطن نحو استراتيجية «الحروب الدائمة» وتكتيكات «الضربات الاستباقية». والآن يبدو أنها دخلت فترة جنون في مرحلة تستعد فيها إدارة البيت الأبيض لمعركة الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. فالمعادلة الآن مقلوبة فمن لا يقرأ يفهم.

الجنون يمكن رصده من العوارض التي تنتاب السياسة الأميركية. فهناك ملامحُ تعارضٍ أخذ يتجه نحو الإعلان عن نفسه بين وزارة الدفاع ووزارة الخارجية. وعلى رغم التشابه بين السلوكين فهناك فروقات يجب ملاحظتها وهي كلها تشير إلى عدم تطابق رؤية كولن باول مع رؤية دونالد رامسفيلد. فمثلا حين يقول باول إن الإدارة خُدعت بالمعلومات عن وجود «أسلحة دمار شامل» في العراق ترد قوات الاحتلال وتعلن في اليوم التالي عن اكتشاف قذيفة مليئة بمادة «السيرين» على قارعة طريق قرب بغداد. وحين يعلن باول عن استعداد واشنطن لتنفيذ وعدها بالانسحاب الجزئي في 30 يونيو/ حزيران المقبل، يعلن رامسفيلد عن تعزيز الاحتلال بقوات إضافية استُقدمت من كوريا الجنوبية.

هذا على مستوى الملف العراقي. أما على مستوى الملف الفلسطيني فاضرب واطرح واجمع حتى تقرأ ما يدور في كواليس البيت الأبيض. والنتيجة مجموعة متناقضات لا تتفق على معادلة واضحة. فباول مثلا يبدي قلقه من تدمير «إسرائيل» لمنازل المدنيين في رفح ولكنه يحمّل ياسر عرفات مسئولية التصعيد. كيف توصل باول إلى هذه المعادلة الرياضية؟ لا أحد يملك الجواب.

والجنون في معدلاته المتضخمة ليس في وزارة الخارجية وإنما يمكن ملاحظته في «البنتاغون». فهذه المؤسسة (وزارة الدفاع) تحولت في السنوات الأربع الأخيرة إلى مستشفى تخرّج المجانين وتعيد تصديرهم إلى الإدارات الأميركية والعالم.

في السياسة الفلسطينية ينكشف حال الجنون الأميركي في أعلى درجاته. فالبيت الأبيض بحاجة إلى دعم اللوبي اليهودي المؤيد لـ «إسرائيل» فيذهب بوش إلى منظمة «ايباك» ويعلن التزام الولايات المتحدة بأمن «إسرائيل» في وقت يكون فيه ارييل شارون يقصف المدن والقرى ويهدم المنازل منهجيا ويرمي الصواريخ على مظاهرة تشييع للشهداء الفلسطينيين. بوش يعد «إسرائيل» بحفظ أمنها في الوقت الذي يهدد شارون أمن الشعب الفلسطيني وأمن المنطقة كلها. فحين يفقد العقل منطقه تبدأ هلوسة اللغة. واللغة هي الدليل الحسي على وجود خلل في العقل. فاللغة المتخبطة هي بداية الجنون. وهذا ما يظهر من السلوك (اللغوي) حين تتطرق الإدارة الأميركية إلى الموضوع الفلسطيني. والمجنون الكبير حين يفقد السيطرة على لغته يعلّم المجنون الصغير (شارون) سلوك طريق الحرام والإجرام المبرمج والممنهج. وفي هذا المعنى تتحمل الولايات المتحدة المسئولية الأولى لكل ما يحصل من تجاوزات وجرائم حرب وإرهاب وإهانات ضد الإنسانية سواء في العراق أم في فلسطين.

منذ سنوات تطالب السلطة الفلسطينية بإرسال قوات دولية للفصل «بين الشعبين» وأميركا ترفض. كذلك رفضت واشنطن كل الطلبات التي أرسلها عرفات لوضع الأراضي الفلسطينية تحت إشراف دولي أو بعثات دولية تراقب الوضع وترصده.

أميركا منذ سنوات ترفض إرسال قوات للفصل أو جنود للحماية أو بعثات للمراقبة إلى فلسطين، وفي الوقت نفسه تعد شارون بحمايته وتعزيز قواته وتغطية أعماله الإجرامية. شارون يدمر منهجيا قطاع غزة وبوش يعتبر هذا الأمر فرصة للشعب الفلسطيني ويلوم عرفات لأنه لم ينتهز مثل هذه الفرصة ويحمّله مسئولية عدم انسحاب «إسرائيل» من غزة.

هذا هو الجنون. فحين سئل بوش لماذا لا يقرأ الصحف ويتابع نشرات الأخبار ويطلع على المعلومات؟ أجاب بكل وضوح انه لا يريد «تشويش» أفكاره. فالمتابعة تعطل عليه إمكانات التركيز الذهني على حقائق يراها ثابتة في عقله حتى لو تضاربت مع كل المعلومات والوقائع في العالم.

هذا هو الجنون، فمن لا يقرأ يفهم. والمشكلة في أن صاحب هذه النظرية يطمح إلى التجديد ويرى أن منظمة «ايباك» تملك المفتاح السحري لباب البيت الأبيض. فبوش يراهن على «ايباك» للتجديد و«ايباك» تراهن على بوش لتغطية التدمير المبرمج في قطاع غزة.

هذا هو الجنون. والمشكلة أيضا أن هذا المفتون «بعضلاته» يرى أن تجديد انتخابه يعتبر بمثابة استفتاء شعبي لسياسته. ففي الدورة الأولى نجح بأسلوب ملتوٍ وبواسطة «لوبيات» القرار. أما الدورة الثانية فهي الدليل الملموس على أحقيته بالرئاسة وصحة اختياره في المرة السابقة.

إنها عقدة التزوير أو الشعور بالذنب بسبب عدم الاتفاق على أهليته. وربما من هنا نفهم السياسة الأميركية حين نقرأ تفصيلاتها المتعارضة بين باول ورامسفيلد. فبوش المرتبك هو تركيب معقد بين باول ورامسفيلد، فمرة هنا ومرة هناك. والنتيجة المزيد من التخبط العشوائي في فترة بلغت فيها الانتخابات الرئاسية درجة الغليان. ومن لا يقرأ يفهم

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 622 - الأربعاء 19 مايو 2004م الموافق 29 ربيع الاول 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً