العدد 620 - الإثنين 17 مايو 2004م الموافق 27 ربيع الاول 1425هـ

قراءة في نجاحات تجربة الهند بعد الاستقلال

سونيا رئيسة وزراء الهند

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

أن تصبح سونيا الإيطالية رئيسة وزراء الهند، ما هي إلا القشرة الخارجية للديمقراطية الهندية التي تُلفت إليها الأنظار كلما تحدث احد عن الديمقراطية والتحديث في العالم الثالث، فهي ثاني أكبر دولة على وجه الأرض، من حيث التعداد السكاني بعد الصين. وان تُسير في حكمها بديمقراطية حديثة تنتقل فيها السلطة بشكل سلمي ودوري، بين المختلفين، على رغم الاختلاف الديني والعرقي والثقافي بين مواطنيها، فذلك هو الحدث الأعمق الذي يستحق القراءة والتفسير.

وأن يفوز حزب المؤتمر الهندي وحلفاؤه من الأحزاب الأخرى بالانتخابات العامة الأخيرة ويتسلم السلطة، بعد سنوات في المعارضة، يعني ضمن ما يعني نجاح التحديث في الهند من دون رجعة، الذي حدد حدود اللعبة السياسية ورسم تفاعلاتها.

حزب المؤتمر الهندي له تاريخ ايجابي طويل مع العرب، منذ أعلن تأييده في عشرينات القرن الماضي للحركات السياسية العربية المطالبة بالاستقلال من الاستعمار البريطاني وقتها، مرورا بعلاقة النخب التي حققت الاستقلال الهندي بالنخب العربية الجديدة، منذ منتصف القرن الماضي، وانتهاء طبعا بالعلاقات الاقتصادية والثقافية التي ميزت هند الاستقلال وما قبلها بالدول العربية المشرقية على الأقل.

الهند من الدول التي نظرت إلى التحرر من الاستعمار على انه ليس العودة إلى ماضٍ ما متخيل وضبابي، بل إلى بناء مستقبل تستطيع فيه الهند أن تلعب دورا في العالم الحديث. وكان اهتمام النخب الأولى الهندية التي حققت الاستقلال، هو كيف يمضي التحديث في بلادها لتحقيق حياة اقتصادية وسياسية أفضل للشعب الهندي متعدد المشارب والأعراق والديانات، وكيف تلج الهند الساحة الدولية وتتعامل معها بنجاح وفاعلية.

نظر مؤسسو الهند الحديثة إلى عمليات التحديث على أنها المتطلب الأسبق والضروري للتطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي المطلوب، ومن دون هذا التحديث لا تستطيع الهند أن تقوم كدولة لها مقومات المنافسة في العالم الحديث.

كانت هناك مقاومة داخلية تتمثل في المؤسسات القديمة والقيم والممارسات، وكانت التركة ثقيلة، وترك القديم يأخذ مسيرته في هند الاستقلال يعني التأخر والتناحر وربما الحروب الأهلية أو الانفصال. لذلك أصرت النخبة الأولى التي ناضلت من أجل التحرر أن تحتفظ بالهياكل الإدارية والفنية التي وضعها الاستعمار السابق (البريطاني) لأنها عصب التحديث، وهكذا أبقت «الهياكل الفولاذية» كما يسميها الهنود لم تمس، هكذا قرر جواهر لال نهرو سانده في ذلك القانوني امبركار الذي يسمى «أبوالدستور الهندي الحديث»، فلم يكن الانعتاق من الماضي الاستعماري يعني العودة إلى التقليدية، بل استفاد من الإصلاحات التي تمت إبان الاستعمار وجيّرتها النخب الجديدة لتخدم المصالح الوطنية كما رأتها وقتها.

سارت الهند في إطار التحديث فترة من الزمن، وتقلبت سياساتها الاقتصادية باجتهادات تحديثية مختلفة، بقيادة حزب المؤتمر، وتبنت كغيرها من الدول حديثة الاستقلال، في النصف الثاني من القرن العشرين، سياسيات اقتصادية تتجه إلى تمكين القطاع العام وإشاعة شيء من الفكر الاشتراكي، إلاّ أن ذلك كلفها ثمنا اجتماعيا ربما فاقت سلبياته على إيجابياته، بل وخسارة سياسية في وقت لاحق.

وأصبحت مقاومة هذا التوجه التحديثي، هو الشغل الشاغل للمعارضة إلى درجة اضطرت في وقت ما، انديرا غاندي ابنة احد بناة الهند الحديثة، أن تعطل الديمقراطية وتعلن حال الطوارئ، وكان ذلك احد أهم الخطوات السلبية القاتلة للتجربة التي سرعان ما فاقت منها، ولكن من دون أن تتجاوز دفع الثمن.

اليمين الهندي الذي استفاد من أغلاط قاتلة لحزب المؤتمر عزف معزوفة معروفة لليمين في كل مكان، وهو أن التحديث يهدد الهوية الاجتماعية للمجتمع الهندي، وسار في ذلك الطريق إلى أن حصل على السلطة، ولكن معزوفة الهوية والحفاظ عليها تبقى معقولة ان لم تتجاوز الحد، أما إذا أصبحت مرضية، كالقول بأن التحديث هو تغريب، وان الحل لإنقاذ المجتمع هو فك الاشتباك مع الحداثة، فان ذلك يسبب اضطرابا اقتصاديا، ومن ثم اجتماعيا بالغ الخطر، وهو ما حدث لحزب بهاراتيا جاناتا الذي ظهر من ردائه التعصب الديني والعرقي والعداء للآخر القريب بل والتهديد بالحرب.

المجتمع الهندي سار في إطار التحديث إذ تبناه منذ القرن التاسع عشر، فالإصلاح الاجتماعي الذي تم وقتها تحت السلطة الاستعمارية من مساواة بين الطبقات ومنع بعض الممارسات الاجتماعية الضارة، كإحراق النساء بعد وفاة أزواجهن ومثلها من الممارسات السلبية، وضع المجتمع الهندي في إطار التحديث من دون رجعة، وهو تحديث معرض للتأثير والتأثر من كل الاتجاهات.

التحول من جديد إلى حزب المؤتمر الهندي لا يعني إلغاء كل الايجابيات التي تمت في الاقتصاد الهندي، فلأول مرة في تاريخ الهند تصل نسبة الدخل من الخدمات في الدخل القومي الهندي إلى أكثر من خمسين في المئة (متوسط مساهمة قطاع الخدمات في الدخل القومي للدول المتقدمة هو 65 في المئة).

فالاقتصاد الهندي اليوم هو اقتصاد حديث بمعنى الكلمة، التقنية فيه هي الأساس، وبنجلور بمنزلة وادي السليكون في كاليفورنيا الأميركية بالنسبة إلى الهند، إذ تنتج برامج الكمبيوتر ومستلزماتها، وتصدرها إلى الخارج، وقد بلغت قيمة صادراتها من هذه السلع ما يقدر في العام 2003 بستة بلايين دولار، وهذا الرقم يتوقع الخبراء أن يتصاعد، ويعمل في هذه الصناعة اليوم سبعمئة وخمس وثمانون ألف عامل من المؤهلين الجامعيين، يقدر أن يتضاعف العدد في بحر العام المقبل.

لقد استثمرت الهند في التعليم الحديث بقوة وبفاعلية منذ الاستقلال وأصبحت من الدول ذات رأس المال البشري المدرب والرخيص نسبيا في الوقت نفسه، لا تعمل هذه القوى البشرية في الداخل الهندي فقط، بل تتوزع في كل من أوروبا والولايات المتحدة ودول آسيا، بل نستقطب في الخليج عددا وافرا منها في كل القطاعات الاقتصادية. لقد قطعت الهند شوطا واسعا لتصل إلى ما وصلت إليه، فبنت المؤسسات، وهي ليست صناديق انتخاب، ومشاركة فقط، بل وتثقيفا طويل المدى لمعنى المواطنة، والمساواة أمام القانون، وتجاوزت تركة ثقيلة من السلبيات الاجتماعية والسياسية، وذلك بفضل النخب الهندية التي عرفت منذ بداية الاستقلال أن بناء طبقة وسطى مستقلة، وتعليم حديث، هي ضمانة للديمقراطية، وضمانة للوطن وطريق صحيح للنمو الاقتصادي.

الهند اليوم على مشارف الحكم التي من المحتمل أن يناط بسونيا كرئيسة الوزراء الجديدة، التي تبنت وهي الإيطالية المنبت، الثقافة الهندية وعاشقتها، وهي مثال للتسامح الهندي الذي قبلها كزوجة لزعيمه المقتول راجيف غاندي، وكزعيمة بحد ذاتها أيضا، وفي ذلك رسالة أخرى هندية للعالم.

منذ «كليلة ودمنة» التي ترجمها ابن المقفع من عمل الفيلسوف الهندي بيدبا، إلى تسمية الفتيات باسم هند، وتسمية السيف بالمهند، والهند البلاد، دار العجائب تشد العربي بل والمواطن العالمي لبلاد السحر والاختلاف والعجائب، وهي تقوم بمتابعة العجائب اليوم ولكن بطرق حديثة، فهي أكبر ديمقراطية في العالم، وأكثر الدول تعددية داخلية إلى درجة يصعب حصرها، انه الساحر الجديد (صندوق الانتخاب)

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 620 - الإثنين 17 مايو 2004م الموافق 27 ربيع الاول 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً