أتابع الشأن التركي باهتمام كبير منذ أكثر من عقدين، وذلك بعد ان تولدت لدي قناعة بأن تركيا تمثل انموذجاً للأزمة في العالم الإسلامي، أزمة الدولة وأزمة المجتمع على السواء. يحمل الانموذج التركي طبعاً خصوصيات لا تنطبق على بلدان العالم الإسلامي الأخرى، ولكن بروز تركيا العثمانية في القرن التاسع عشر باعتبارها ساحة مشروع التحديث الرئيسية، ثم مرورها بالتجربة الأكثر راديكالية للتحديث والأوروبة خلال الحقبة الأتاثوركية في القرن العشرين، يجعلها مركز اختزال للتدافع الهائل الذي شهده العرب والمسلمون منذ أكثر من قرن ونصف القرن على قضايا الانحطاط والضعف والنهضة والتجديد. الحال التركية هي في الحقيقة صارخة لهذا التدافع والانقسام الذي نجم عنه حال بالغة الكثافة لأزمة تتعدد ألوانها ومسمياتها على رغم اشتراكها في الجوهر. ما أعطى تركيا هذا الموقع بامتياز كانت بالتأكيد الخيارات الحادة والاستقطابية التي شكلت تاريخها وتحولاتها وانفجاراتها الداخلية المتلاحقة منذ نهاية الحرب الأولى.
ينشر هذا المقال بعد أيام قليلة على عقد الانتخابات التركية العامة التي يتوقع لها ان تعطي حزب العدالة والتنمية المحافظ (إسلامي الجذور) غالبية مقاعد البرلمان التركي الجديد، وتؤهله ربما لقيادة الحكومة المقبلة. عندما تولى رئيس الوزراء الحالي بولنت اجاويد السلطة قبل أربعة أعوام على رأس حكومة ائتلافية علمانية التوجه، ظن كثيرون داخل تركيا وخارجها ان البلاد خرجت أخيراً من أزمة عدم الاستقرار التي نجمت عن المعارضة العسكرية الحاسمة لحكومة الإسلامي نجم الدين أربكان وإجباره على الاستقالة في صيف 1996. خلال السنة الوحيدة التي تولى فيها أربكان السلطة، بالشراكة مع تانسو تشيلر زعيمة حزب الطريق القويم اليميني، على رغم التنازلات الواسعة التي قدمها لإرضاء جنرالات الجيش ونفوذهم الهائل في مجلس الأمن القومي، فقد ظل الجيش التركي على شكوكه تجاه الزعيم الإسلامي وعلى تصميم الإطاحة به. تكفلت السلطة القضائية التركية لاحقاً (وهي التي تعتبر نفسها خادماً للدولة لا رقيباً عليها) بحل حزب الرفاه ذي التوجهات الإسلامية المعتدلة وحرمان أربكان من ممارسة العمل السياسي.
وفشل حزب الفضيلة الذي ولد من بقايا حزب الرفاه، في إحراز أية نجاحات ملموسة في الانتخابات العامة الماضية، أولاً لأن الناخب التركي أراد ان يجنب البلاد من صدام جديد بين الإسلاميين والجيش، وثانياً، لأن حزب الفضيلة لم يكن وطد قدميه بعد في الساحة السياسية الانتخابية. وثالثاً، وهذا هو الأهم، لأن الحزب ولد وسط حال من التشرذم والانقسام في صفوف الإسلاميين الأتراك الذين شكلوا قيادة حزب الرفاة.
كانت حال الاستقرار التي جاءت بها حكومة ايجيفيت قصيرة الأجل بلا شك. فمن ناحية، عاش الاقتصاد التركي منذ تولي رجل الدولة العجوز السلطة حالاً من التهور المستمر، بعد ان شهد انتعاشاً ملموساً خلال حكم أربكان القصير. وقد تفاقمت الأزمة الاقتصادية التركية إلى الحد الذي انكمش فيه اقتصاد البلاد بنسبة عشرة بالمئة خلال العام الماضي. ومن ناحية ثانية، عادت الطبقة التركية العلمانية الحاكمة إلى عاداتها المتأصلة من فساد وتشرذم وصراع عبثي على السلطة، مما أدى في النهاية إلى تشرذم حزب ايجيفيت ذاته. يضاف إلى ذلك فشل ايجيفيت، على رغم الاسترضاءات الكبرى التي قدمها للأوروبيين، في فتح الطريق أمام التحاق بلاده بالوحدة الأوروبية، وهو الهدف الذي جعل منه ايجيفيت أولوية برنامج حكومته، ليس فقط من أجل تحسين الأوضاع التركية الاقتصادية بل أيضاً - وقبل كل شيء - من أجل حسم سؤال الهوية الذي أرق الأتراك منذ انهيار الدولة العثمانية. اليوم انتهت ولاية ايجيفيت وقد خابت الآمال في إعادة بناء الاستقرار الذي طالما طارده الأتراك كحلم بعيد المنال، ويقود تركيا إلى مرحلة الأزمة من جديد.
أحد جوانب هذه الأزمة هو النجاح المتوقع لحزب العدالة والتنمية. أسس هذا الحزب قبل أقل من عامين على يد مجموعة شابة (شابة نسبيا بالطبع) من اتباع اربكان السابقين وكوادر «الرفاه» و«الفضيلة». يقف في مقدمة تلك المجموعة رجب طيب أردوغان الذي ترأس بلدية أسطنبول في منتصف التسعينات محرزاً شعبية هائلة بفضل النجاحات التي حققها في ادارة شئون عاصمة السلطنة السابقة ومركز التجارة والثقافة في تركيا الجمهورية. كان الدافع وراء تأسيس حزب «العدالة والتنمية» هو البحث عن السلطة في معناها السياسي الانتخابي، فقد توصل أردوغان وزملاؤه إلى قناعة راسخة بأن الجيش التركي والمؤسسة العلمانية للدولة لن تسمح بوصول حزب اسلامي للحكم مهما تكن عواقب ذلك وبغض النظر عن حجم الدعم الشعبي لمثل هذا الحزب، وفي ظل سيطرة اربكان المعنوية (وربما الفعلية) على حزب الفضيلة، فقد اتجه أردوغان إلى تأسيس حزب جديد يتخلى تماماً عن البرنامج الاسلامي، حزب ذو توجهات علمانية معتدلة. ويتسم بطابع محافظ فيما يتعلق بمسائل الاقتصاد والاجتماع. وهكذا، وعلى رغم جذوره الاسلامية، تجنب حزب العدالة والتنمية طرح أية تساؤلات عن الإساس العلماني للجمهورية، أقر استمرار عضوية تركيا في حلف شمال الاطلسي، أعلن تأييده القاطع للسعي إلى الانضمام للوحدة الأوروبية، ولا يختلف «العدالة والتنمية» كثيرا عن بقية أحزاب اليمين التركي في توكيده النسبي على حرية الاعتقاد الديني في البلاد.
بل أن حرية الاعتقاد وضرورة توفير الحماية القانونية لها، هي أحد الشروط التي يتحتم على تركيا الإلتزام بها قبل أن تبدأ مؤسسة الوحدة الأوروبية في البحث الجاد في التحاق تركيا بالوحدة الأوروبية. ولكن لا الجيش ولا المؤسسة العلمانية المدنية تريد أن ترى حزب «العدالة والتنمية» في السلطة فجذور قادة الحزب هي جذور اسلامية وهذا بحد ذاته وعلى رغم كل التوكيد على التوجهات الجديدة، يكفي لإثارة الشكوك حولهم. في عرف جنرالات الجيش، من كان اسلاميا يوما يبقى اسلاميا دائماً، والاسلاميون خطر ينبغي على الجمهورية التركية تجنبه بكل الطرق والوسائل، القانونية منها وغير القانونية.
في 1998 قدّم أردوغان للمحاكمة بتهمة التحريض الديني، وذلك بسبب اشارات شعرية رمزية استخدمها في خطاب سابق له، وأمضى بعد ادانته فترة قصيرة في السجن خلال العام التالي. اصبحت تلك المحاكمة المبرر الذي استخدمته السلطات التركية لمنعه من الاشتراك في الانتخابات الاخيرة، وتسعى النيابة التركية العامة الان لاسقاطه من رئاسة حزبه. بل ان الناخبين الاتراك فوجئوا عشية الانتخابات بأن السلطات القضائية ستقرر خلال أسبوعين ما إن كان العدالة والتنمية حزبا غير شرعي وتقرر حله، ما يعني ضياع ملايين الاصوات التي قد تقترع لصالح مرشحيه. وهذا على رغم من توكيد أردوغان حديثاً على أنه لن يسعى لتولي منصب رئاسة الوزراء ان نجح حزبه في الحصول على عدد المقاعد التي تؤهله لتشكيل الحكومة أو قيادة حكومة إئتلافية، وأن أحد نوابه في رئاسة الحزب سيقوم بهذه المهمة.
يصعب تحديد مجمل الاسباب التي أدت إلى صعود حزب العدالة والتنمية إلى أعلى الخريطة السياسية التركية خلال اقل من عام ونصف العام على تأسيسه. ولكن أحداً لا يستطيع تجاهل عاملين أساسيين وراء هذا الصعود: الأول، ان الشعب التركي لم يعد على استعداد لإعطاء الطبقة العلمانية التقليدية فرصة أخرى بعد ثلاثة أرباع القرن من العنف والانقسام الداخلي والتوتر والتأزم الاقتصادي المستمر. الثاني، أنه على رغم من التوجه العلماني المحافظ الذي يوسم برنامج حزب العدالة والتنمية فإن الناخب التركي يأمل أن يحقق صعود الحزب إلى الحكم إعادة التوازن إلى إشكالية الهوية والثقافة التي نخرت طويلا عظم الجمهورية وأقامت تلك الفجوة العميقة بين الدولة والمجتمع. السؤال الآن هو ما الذي تخبئه المؤسسة التركية العسكرية، حارسة الميراث العلماني الاتاتوركي، لحزب العدالة والتنمية وللحكومة التي يتوقع له قيادتها.
أما الجانب الآخر للأزمة التركية فينبع من تهاوي الآمال باقتراب الانفراج في علاقة تركيا بالوحدة الأوروبية. لقد باتت النخبة العلمانية التركية (بل وكثير من الاسلاميين) منذ عقدين على الأقل على قناعة راسخة بأن في انضمام تركيا للكتلة الأوروبية حلا نهائيا لمشكلة الاقتصاد ولإشكال الهوية على السواء. ولكن ما فاجأ الاتراك ان سعيهم للهروب من ميراثهم الاسلامي قابله توكيد أوروبي على هذا الميراث. لم تقل أوروبا بوضوح قاطع أن مشكلة انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي هي مشكلة دينية (على رغم ان التلميحات في هذا الاتجاه متعددة)، وغطت رفضها المساعي التركية وتأجيل النظر فيها بانتقادات لسجل حقوق الانسان، حقوق الاقليات، قوانين العقوبات، وبالطبع دور المؤسسة العسكرية في الحكم. وقد حاول ايجيفيت خلال العامين الماضيين الاستجابة للانتقادات الأوروبية بأن نجح في تمرير سلسلة قوانين عبر البرلمان ألغت عقوبة الاعدام وأجرت تعديلات ملموسة فيما يتعلق بقضايا حقوق الانسان والحقوق الثقافية للأقلية الكردية. ولكن دور الجيش في صناعة القرار وإدارة شئون الدولة يمثل، كما يعرف الجميع، البقرة الأكثر قداسة في كيان الجمهورية التركية، وهو على أية حال الحاجز الرئيس أمام ازدياد نفوذ الاسلام السياسي والثقافي في البلاد. فهل ترغب أوروبا فعلا في اطلاق حرية الاسلام السياسي في البلد الذي يمثل ثاني اكبر قوة عسكرية في حلف الناتو بعد الولايات المتحدة، أم أن أوروبا تريد المحافظة على تركيا علمانية متأوربة من دون أن تفتح لها أبواب الوحدة الأوروبية.
فوجئ ايجيفيت بعد مجموعة الاصلاحات والتشريعات التي ادخلها ان اجتماع القمة الأوروبية الاخير في كوبنهاجن قد أقر مشروع توسع الوحدة الأوروبية بضم عشر دول أخرى مع نهاية 2004، بما في ذلك هنغاريا ودول البلطيق السوفياتية السابقة. كما اعطت قمة كوبنهاجن الضوء الاخضر لبدء التفاوض على انضمام مجموعة دول أخرى مثل رومانيا وبلغاريا (التي تعيش أوضاعاً اقتصادية لا تقل سوءاً عن الوضع التركي) وقبرص خلال عدة أعوام قليلة بعد ذلك. ولكن القمة الأوروبية أصابت المعسكر الأوروبي في أنقرة بخيبة أمل كبيرة عندما رفضت الاعلان عن بدء التفاوض عن انضمام تركيا. ما يضاعف من خيبة الأمل هذه أن مصادر الوحدة الأوروبية في بروكسل تؤكد أن مثل هذا الإعلان غير متوقع في لقاء القمة الأوروبية المقبل المقرر عقده في ديسمبر/ كانون أول. بل أن التقرير الأوروبي الأخير عن الأوضاع التركية يعيد من جديد التوكيد على الانتقادات التقليدية للقوانين والسياسات الداخلية ولدور المؤسسة العسكرية في الحكم.
بهذا، تعود تركيا إلى حال الفصام العثماني التقليدي في علاقاتها بالعملاق الأوروبي الذي يزداد توسعاً في الجوار التركي. وبين أزمة السياسة وأزمة العلاقة مع المنظومة الأوروبية تزداد الحال التركية تفاقماً. وليس ثمة من حل في الأفق، ليس لاستحالة التوصل إلى حل ما أو لأن العقل التركي الجمعي عاجز عن تلمس الطريق، بل لأن القوى التركية النافذة ترفض وضع القضايا الجوهرية والأساسية محل البحث.
? كاتب فلسطيني، وأستاذ التاريخ الحديث?
العدد 62 - الأربعاء 06 نوفمبر 2002م الموافق 01 رمضان 1423هـ