تتسارع الحوادث الدمويّة بشكل لم يسبق له مثيل على ساحة «الشرق الأوسط»، ويحتار المحلّلون في كيفيّة ربط هذه الحوادث ببعضها بعضا، وذلك بهدف رسم صورة واضحة للوضع المتأزّم. ويبدو حتى الآن، أن مقولة كلوزفيتز: «إن الحرب هي السياسة بوسائل أخرى»، هي السائدة حاليّا. أي ان البُعد العسكري، وعامل القوّة، يسيطران على الساحة. فالكلّ مستنفر. ولا يبدو ان اللاعبين حتى الآن، سيعودون قريبا إلى البُعد السياسي الدبلوماسي. وذلك بسبب عدم التقدّم الواعد على صعيد المنتوج العسكري على أرض المعركة. فساحات العمليات العسكريّة في هذا الشرق الملتهب، لم تعكس حتى الآن نصر أحد المتصارعين، وانهزام البعض الآخر بشكل قاطع. وخصوصا ان كلّ نصر عسكري، لابد من ان ينتقل إلى الترجمة السياسيّة. وحتى ان المُنهزم في هذا الشرق، لايزال مُصمّما على القتال حتى الرمق الاخير، الأمر الذي يحرم المُنتصر عسكريّا، من ترجمة نصره والانتقال إلى التنفيذ السياسي. إذا المُنهزم مُصمّم على الاستمرار في صراعه - قتاله، والمنتصر قلق على كيفيّة الحفاظ على نصره، الذي بدأ يتآكل نتيجة لما يعكسه الميدان العسكري.
في هذا الشرق، تغيّرت المفاهيم السياسيّة التقليديّة. وأصبحت هناك لغة وتعابير جديدة في الابعاد الدبلوماسيّة، كما في الأبعاد العسكريّة. في هذا الشرق، لا توجد عقلانيّة، كما تعودّنا عليها في علم السياسة. في هذا الشرق، تدور المعارك العسكريّة الأساسيّة لرسم صورة النظام العالمي الجديد. صورة عالم ما بعد سقوط الدبّ الروسي، وخصوصا صورة العالم ما بعد 11 سبتمبر/ أيلول. هذا إذا لم يشهد العالم قريبا ما يماثله. في هذا الشرق، تسود لغة القوّة بشكل لم يسبق له مثيل. وفيه، تستمرّ مقولة المفكّر اليوناني توسيديدس، في ان «القوّة هي الحق». لكن الأكيد، ان القوّة من دون حقّ هي طغيان، وان الحقّ من دون قوّة هو عجز. وهذا فعلا ما هي عليه طبيعة العلاقة بين الفلسطينيين والاسرائيليين.
في هذا الشرق، كلام كثير وكثير جدا. لكن هذا الكلام يدور كلّه حول التفسير والتحليل للمفاهيم، والتعريفات. ويدور هذا الكلام حول كيفيّة إدراك هذه المفاهيم والتعريفات. فالإرهاب، هو كلمة السرّ والتي يدور حولها الجدل. ولكن المفارقة تبدو، في ان هذا الجدل، هو جدل دموي، ودموي جدّا. في هذا الشرق، الخلاف الأساسي هو عن القواميس، وما تحويه. فما هو إرهاب للولايات المتحدة و«إسرائيل»، هو حقّ شرعي للكثير من العرب، وخصوصا الفلسطينيّين. ولكن المشكلة تكمن، في ان الحلف المقدّس ما بين «إسرائيل» وأميركا، هو الآن المهيمن والمسيطر. فلديهما كلّ وسائل القوّة، وفي كلّ الأبعاد، الاقتصاديّة السياسيّة وغيرها. ولكن الخطورة الكبرى تكمن، في أن من يسيطر على هذه القوّة، هم أناس خطرين، في وقت يبدو فيه العرب في وضع لا يُحسدون عليه.
في هذا الشرق، تحاول أميركا كسب القلوب والعقول، عبر الإذاعات وشاشات التلفزيون، كما عبر الخطابات والرسائل. لكن الواقع يعكس صورا مختلفة لتلك العقول والقلوب المُستهدفة. فالدم هو الذي يملأ الطرق والساحات. في هذا الشرق، قلب الرئيس بوش رأسا على عقب مقولة الرئيس الاميركي السابق، والذي كان الأكثر عقلانيّة في تاريخ الولايات المتحدة، تيودور روزفلت عندما قال: «تكلّم بلطف ولكن أحمل عصا غليظة». لتصبح المقولة على الشكل الآتي: «تكلّم بفظاظة، وأضرب بالعصا الغليظة في الوقت نفسه»، الأمر الذي شكّل مفارقة في العلم والاداء السياسيّين، وذلك عندما تماهى بُعد القوّة، في البُعد السياسي ليُصبحا بُعدا واحدا. وبدا الوضع، وكأن الهدف المنشود في العلاقات الدوليّة حاليّا ومع العم سام، هو فقط في استعمال القوّة، وفقط القوّة من دون غيرها. وكأن القوّة أصبحت الحلّ السحري، لكل مشكلات الإدارة الاميركيّة. من هنا، يمكننا القول، إن طغيانا ما حلّ مكان آخر. وإن مرحلة جديدة في العلاقات الدوليّة هي قيد التشكُّل. ونقرأ الكثير عنها في المجالات الأكاديميّة لاحقا، لأنها ستنتج حتما أطنانا من الكتب والدراسات. وذلك كما كنّا قرأنا في مرحلة سابقة عن المرحلة النوويّة مثلا خلال «الحرب الباردة».
إذا يشكّل «الشرق الأوسط» الصغير/ الكبير ساحة الصراع الأساسيّة حاليّا، فكيف تبدو فيه الأوضاع؟
فجأة ومن دون سابق إنذار، تلغي تونس اجتماع جامعة الدول العربيّة.
بعد زيارة ملك الأردن لشارون، التي من المفروض أن تكون سريّة. اغتال شارون زعيم حركة حماس الشيخ أحمد ياسين.
ردّا على الاغتيال، تتوعّد حركة حماس بالردّ على الاغتيال، وتختار عبدالعزيز الرنتيسي زعيما لها.
تستمرّ العمليات العسكريّة في العراق ضد الاحتلال. ويصرّ الرئيس بوش على نقل السلطة في الموعد المُحدّد، أي 30 يونيو/ حزيران 2004.
يُفاجئ السيّد مقتدى الصدر الولايات المتحدة في العراق، فيقود انتفاضة محدودة بواسطة جيش المهدي. يُربك الصدر القوات الاميركية، لأنها فعلا وبحسب الخبراء الاميركيين، لم تكن مستعدّة لذلك. ويُثبت هذا الأمر، ان الولايات المتحدة لاتزال تفتقر إلى الاستعلام التكتيكي الجيّد على الساحة العراقيّة. يستولي الصدر على بعض المدن الشيعيّة بالقوّة. يتبيّن عندها محدوديّة فعاليّة قوات التحالف من غير الأميركيين. الأمر الذي وضع أعباء إضافيّة على «البنتاغون» والقوات الاميركيّة. وحدا هذا الأمر، أن يعُلن رامسفيلد القرار غير الشعبي إطلاقا في أميركا، تمديد فترة بقاء نحو 20000 من الجنود الأميركيين.
تدخل إيران على خطّ الوساطة بين الصدر والولايات المتحدة في ظاهرة فريدة جدّا. تنفي اميركا طلب المساعدة من إيران، وتحيل الموضوع على بريطانيا. في الوقت نفسه، يُغتال السكرتير الاوّل في السفارة الايرانيّة في بغداد في ظروف غامضة. في هذا الوقت، تبقى المرجعيّة في النجف الاشرف، على الحياد مع الدعوة إلى ضبط النفس. ويُفسّر هذا الامر على ان حركة الصدر هي حركة محدودة، ولأهداف سياسيّة محدودة لا تتعدّى مطالب الصدر نفسه.
تدخل الامم المتحدة على خط الحلّ في العراق لترتيب طريقة نقل السلطة إلى العراقيين في الموعد المحدّد. ويقترح الابراهيمي مشروعه عن آليّة نقل السلطة إلى العراقيّين.
في الوقت نفسه، تتجمّع المقاومة العراقيّة في مدينة الفلّوجة بعد ان تطوّقها القوات الاميركيّة، عقب حادث التمثيل بجثث أربعة من الاميركيين.
ماذا عن تطويق الفلّوجة؟
شبّه كثيرون الحرب في العراق بما حصل في فيتنام. لكن الأكيد، ان لكلّ حرب ظروفها وأوضاعها وأهدافها السياسيّة المختلفة. ومن الاكيد، أيضا ان الحربين تختلفان تماما وفي عدّة أمور. في الموقع الجغرافي، في التركيبة الداخليّة، في الأهداف السياسيّة وفي الاستراتيجيّة الكبرى للولايات المتحدة. وأيضا وأيضا، في تركيبة النظام العالمي. فمن نظام ثنائي، إلى عالم آحادي الآن.
لكن المشترك بين الحربين، في انهما تدوران بين قوّة عظمى ومقاومة أصغر منها بكثير. أو ما يمكن تسميتهما بالحروب الصغيرة. وعادة، تضع هذه الحروب الصغيرة تقييدات كبيرة جدّا على القوى العظمى. وهي، أي الحروب الصغيرة، لديها طابعها وطبيعتها الخاصة. لكن كيف؟ بالنسبة إلى القوى العظمى، هي حروب صغيرة. اي، لا تُعبّئ هذه القوى كل ما تملك لصالح هذه الحرب الصغيرة. تريد القوى العظمى، خوض الحرب الصغيرة، وفي الوقت نفسه تريد ان تستمرّ حياتها الداخليّة وعلاقاتها الدوليّة كما جرت العادة. أما بالنسبة إلى القوى الصغيرة، فإن الحروب الصغيرة تكون عادة على مستوى استراتيجي بالنسبة إليها. فهي عادة تكون المسرح الأساسي للحرب. وهي تحشد كل ما تملك من أجل هذه الحرب. وهي أيضا، تحاول خوض حربها ضد القوى العظمى على الساحة العسكريّة، كما على الساحة السياسيّة الداخليّة لهذه القوى. تستهدف القوى الصغرى، الرأي العام في مجتمع القوى العظمى، أو بالأحرى صناديق الاقتراع. ويتساءل المرء، أو المُحلّل في هذا الإطار: من يخوض الحروب الاستعماريّة منذ اكثر من قرن من الزمن؟ ويكون الجواب، في أن القوى الكبرى، والتي تدّعي الديمقراطيّة هي التي تخوض تلك الحروب.
كيف تطوّرت عمليات المقاومة في العراق؟
لم يقتنع رامسفيلد عقب الانتهاء من الحرب الكبيرة، ان هناك مقاومة في العراق، وذلك على رغم وقوع الكثير من القتلى الاميركيين. ومع الوقت، اعترف الجنرال جون أبي زيد بأن هناك فعلا مقاومة. لكن الامر بقي في كيفيّة رسم استراتيجيّة للقضاء عليها. لم يحصل هذا الأمر على الاقلّ حتى الآن.
انتقلت المقاومة من مبدأ، «أضرب واهرب»، إلى زرع العبوات الناسفة على جنب الطرقات وتفجيرها عن بُعد، الأمر الذي يتطلّب مستوى متقدّم من الخبرات العسكريّة. والأمر الذي أربك القوات الأميركية أيضا.
بعد قتل ولدي الرئيس صدّام حسين (عُدي وقصي). وبعد القبض على صدام نفسه. اعتقد الكل ان المقاومة ستتوقّف ولم تتوقّف.
أخيرا، انتقلت المقاومة من زرع العبوات على الطرقات، إلى حرب المدن. وهنا يدخل دور الصحراء كما قلنا سابقا. فالبقاء خارج المدن، يعني بالنسبة إلى الأميركيين انهم خارج العراق. فخارج المدن، لا يوجد سوى الصحراء. من هنا اهميّة استعادة المدن، إذ ستنفّذ أميركا مشروعها في العراق. في المدن، لا يمكن لاميركا ان تستعمل كل التكنولوجيا المتوافرة لديها. فقد يبدو الأمر وكأنها تدمّر المدن، فينقلب عليها الوضع تماما.
بعد المدن، وبسبب الصحراء، استهدفت المقاومة خطوط المواصلات للقوات الأميركية. علما ان تأمين اللوجستيّة للقوات الاميركية، أعطي لشركات أميركية مدنيّة. واضطر هذا الأمر القوات الاميركية إلى إغلاق بعض هذه الطرق، ونشر المزيد من القوات لتأمين سلامتها.
وبسبب أهميّة المدن، عمد السيّد مقتدى الصدر إلى احتلال المزيد منها خلال حركته الأخيرة. وأظهرت انتفاضته نقاط ضعف القوات الاميركيّة، ومعطوبيّة قوات التحالف من غير الاميركيين. واضطر هذا الوضع القوات الاميركية إلى استعادة المدن بقوات
العدد 618 - السبت 15 مايو 2004م الموافق 25 ربيع الاول 1425هـ