العدد 616 - الخميس 13 مايو 2004م الموافق 23 ربيع الاول 1425هـ

من أين يبدأ الاجتهاد؟

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

من أين يبدأ الاجتهاد؟ من الوقائع أم من النصوص؟ هل الاجتهاد هو قواعد فقهية نتعلمها في المعاهد الدينية، وينتهي عند حدود الاطلاع أو التعرف على المناهج والأدوات التي استخدمها الاسلاف، أم هو دراسة أصول الاجتهاد وقواعده للانطلاق منها لإعادة استقراء الواقع واستنباط الأحكام وتصورها؟

الجانب الأول من الاجتهاد ضروري لأنه يضع الدارس في ضوء المنهج التاريخي ويحدد للطالب الأطر التاريخية والمحطات التي مر فيها المجتهدون. أما الجانب الثاني فهو وظيفي لأنه ينقل الدارس من مرحلة التعلم والاطلاع إلى مرحلة أرقى وهي تطوير أدوات الاجتهاد ومحاولة استخراج المواقف وتحديد الرأي الشرعي في الحوادث الجارية. الجانب الأول تاريخي أما الثاني فهو عملي لأنه يرد على حاجات راهنة وتمس حياة المسلمين مباشرة.

الجواب عن سؤال «من أين يبدأ الاجتهاد؟» غير بعيد عن المسألتين: النص والواقع. فالنص هو البعد النظري والواقع هو البعد العملي. وحين يفقد النظري وظيفته العملية يتجاوزه الزمن، وعندما يبدأ العملي بالتفلت من الضوابط النظرية يدخل في متاهات من نوع ذبح مجموعة سرية (لا يعرف من هي) رهينة أميركية وتوزيع عملية الاعدام على محطات التلفزة.

هذا النوع من السلوك يجب التوقف أمامه، لأنه يتم باسم الاسلام في وقت تمر الأمة بأسوأ حالاتها وتواجه المخاطر من كل حدب وصوب وتشن عليها الحملات من الخارج والداخل.

ما هو الموقف الشرعي من ذبح رهينة؟ السكوت على مثل هذا العمل في لحظة بدأ العالم يفكر بمصير العراق ويتعاطف مع شعبه ويستنكر تلك المشاهد المقززة التي خرجت إلى العالم من سجن أبوغريب... مسألة لا تغتفر.

كذلك لا يغتفر للمجتهد القاعد أو الساكت على الحق حتى لو كان فيه إدانة لطرف يتحدث باسم الإسلام. فالسكوت ليس وظيفة المجتهد وإلا سقطت عنه شرعا. فالسكوت يعني في لحظات كثيرة الخوف من قول الحق. ومن يخاف من قول الحقيقة حتى في أقسى اللحظات فَقَدَ موقعه الأمامي في القيادة وتحديدا تبوء موقع الاجتهاد.

لابد من وجود قواعد للتفكير والانطلاق لتحديد الصحيح وتصويب الخطأ والتمييز بين الأشياء وإلا اختلطت الأمور على الناس. فالعالم يتعرض يوميا لعشرات الضغوط ويشاهد مئات الصور ويتابع آلاف الأخبار وتتناقل وكالات الأنباء والمحطات والفضائيات الكثير من الحالات... وأحيانا تحصل بعض تلك الأمور باسم الاسلام والمسلمين.

أمام هذه الأشياء كيف يمكن التصرف؟ وما هي وظيفة المجتهد تجاه تلك الحوادث التي تحصل ضد الاسلام أو باسمه؟ فالمجتهد وظيفته قول الحق وعليه - كما يقول الامام الغزالي (أبوحامد) نقلا عن الامام الشافعي - ملاحظة «القواعد الكلية ويقدمها على الجزيئات». فوظيفة المجتهد وضع القواعد العامة لضبط الأحكام الجزئية. وهذه الوظيفة لابد من إنجازها على مختلف المستويات سواء من ناحية تصور الأحكام بالنسبة إلى الممارسات والاهانات التي ارتكبتها قوات الاحتلال مثلا في العراق أو بالنسبة إلى تصوير مشهد ذبح رهينة وتوزيع الشريط على الفضائيات باسم الاسلام.

وظيفة المجتهدين اليوم هي إعادة تأصيل القواعد وتأسيس الكليات المتضمنة مقاصد الشارع في وضع الشريعة. فالشريعة لم تنزل لمكان محدد وزمان معين، وإلا لكانت وظيفتها انتهت منذ القرن الهجري الأول. والعلماء وهم «ورثة الأنبياء» من واجبهم تأصيل القواعد أو تفريع الأصول حتى تقوم الشريعة بوظائفها العملية في كل مكان وزمان.

الشاطبي (توفي 790 هجرية) مثلا حدد مقاصد الشريعة في زمانه في أربعة أنواع، ثم فصّل كل نوع منها، وأضاف إليها مقاصد المكلف في التكليف، ثم بسط هذا الجانب (المقاصدي) في 62 مسألة توزعت على 49 فصلا في كتابه «الموافقات في أصول الشريعة». فالشاطبي استنبط في زمانه مقاصد الشريعة، فلماذا لا يستنبط العلماء في عصرنا مقاصد الشريعة في زمننا؟

الأزمنة تختلف والأمكنة تتغير والوقائع لا تتوقف في جريانها. وفي كل فترة (وعلى رأس كل مئة سنة) لابد أن يأتي من يجدد الروح ويعيد تفسير الحوادث والتفقه (التفكر) فيها.

المسألة ليست صعبة ولكنها تحتاج إلى شجاعة والاستعداد لأخذ القرار والخوض مجددا في غمار حقل يحتاج إلى إعادة اكتشاف بالعودة الى الوراء (استقراء النصوص) والتقدم إلى الأمام (تحديد مقاصد الشريعة في زمننا).

فالاجتهاد، كما نعلم، انطلق بداية من مدرستين: الأولى اطلق عليها أصحاب الحديث (وهم أهل الحجاز) وسار فيها الأئمة والعلماء من مالك بن أنس، ومحمد بن ادريس الشافعي، وسفيان الثوري، وأحمد بن حنبل، وداوود بن علي بن محمد الاصفهاني (مؤسس المذهب الظاهري).

والثانية أطلق عليها أصحاب الرأي (وهم أهل العراق) وانفرد فيها بداية أصحاب أبي حنيفة (النعمان بن ثابت) وسار فيها من بعده أصحابه من علماء وقضاة مثل محمد بن الحسن، وأبويوسف (القاضي يعقوب بن إبراهيم)، وزفر بن الهذيل، والحسن بن زياد اللؤلؤي وغيرهم.

كل هؤلاء عاصروا وتعايشوا وتعلموا من آل البيت. فآنذاك لم تكن خطوط الاجتهاد اختلفت وتمايزت في مناهجها الفقهية. فالاختلافات كانت محددة وتقتصر في غالبيتها على مسألة الإمامة؛ فهل تثبت بالاتفاق والاختيار أم تثبت بالنص والتعيين؟ وبعد السنة المئة للهجرة تطورت بعض الأمور فتركزت الاختلافات مع المعتزلة وطاولت بعض الأصول مثل القول في القدر (القدرية) أو إنكار إضافة الخير والشر إلى القدر.

وفي هذا السياق التأريخي برزت ثلاثة تيارات فقهية - فلسفية كبرى: المعتزلة، وآل البيت، وأهل السنة. وأدت الاختلافات والصراعات إلى سقوط المعتزلة تاريخيا لاسباب كثيرة منها تعدد اختلافاتهم وتنوع مصادرهم الفكرية وتداخل خطابهم التأويلي بالترجمات المنقولة عن فلسفات اليونان وفارس والهند، وأخيرا انتهاء وظيفتهم التاريخية.

بعد خروج المعتزلة من المنازلة الكبرى استمرت مدرسة أهل البيت وإلى جانبها مدارس أهل السنة وهي لاتزال إلى أيامنا.

أسهم الصراع مع بدايات المعتزلة في مطالع القرن الثاني وصولا إلى ملاحقة نهاياتها في القرن الخامس للهجرة في بلورة أصول الاجتهاد وفروعه، فأصبح لكل ملة (وهي نوع من الاجتماع يحصل فيه التعاون والتمانع) هيئتها وصورتها ومنهاجها (طريقها الخاص في فهم الكتاب والسنة).

بدأ السجال في ناحية وانتهى في أخرى، ولكنه على مجموعه انتهج قواعد للتفكير ومناهج للتحليل تطورت زمنيا مع تطور متطلبات الدنيا. مثلا بدأت مدرسة الحديث بتحصيل الأحاديث ونقل الأخبار وبناء الأحكام على النصوص. ورفضت مدرسة الحديث بداية الرجوع إلى القياس الجلي والخفي وعلى أنواعه. بينما اعتنت مدرسة الرأي بتحصيل وجه القياس والمعنى المستنبط من الأحكام وبناء الحوادث عليها. ونشب الاختلاف بين المدرستين، وخصوصا في مسائل الفروع، ثم اخذت تتقارب وتحديدا حين ارتحل الامام الشافعي من العراق إلى مصر بعد تطور الخلافات بين المذهبين المالكي والحنفي فوفق بينهما سياسيا وفقهيا.

في البداية إذا انقسم السلف إلى مدرستين، فبعضهم لم يتعرض للتأويل وبعضهم تعرض له ليباشر لاحقا علم الكلام وفق منهج أصولي. وكان أول من شق طريق هذا العلم بحجج كلامية وبراهين أصولية: عبدالله بن سعيد الكلابي، وابن العباس القلانسي، والحارث بن أسد المحاسبي. ونجح هؤلاء في تأصيل علم الكلام ووضع ضوابط تقنية له تعتمد على نص بلاغي متين ومحكم في أسانيده ومتونه.

الاجتهاد إذا بدأ منذ أيام الصحابة والتابعين، وبعدهم كان لابد من وضع قواعد لضبط الأحكام الجزئية ودعيت هذه بأصول الفقه. وهذه الأصول لاتزال متبعة في تدريس الطلبة في المعاهد والجامعات في أيامنا، ولكنها تؤخذ على أساس أنها من موروثات الماضي وليست قواعد عمل أو مناهج للتفكير في الحاضر والانطلاق به نحو المستقبل.

سؤال «من أين يبدأ الاجتهاد؟» لابد من الاجابة عنه حتى نتخلص من تلك التصرفات الشاذة التي يطلقها البعض على محطات التلفزة باسم الإسلام

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 616 - الخميس 13 مايو 2004م الموافق 23 ربيع الاول 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً