يتسم الحديث بالشجون عند التطرق إلى الكم والنوع من الإصدارات المتنوعة والواسعة الانتشار للمجلات التي تخاطب المرأة العربية، وما يزيد الهم غما، حال المرأة العربية ومعاناتها مع الفقر، والبطالة وعدم ثبات وضعها في مجالات العمل المختلفة، وانخفاض أجرها مقارنة بأخيها الرجل، ناهيك عن الأمية وما يتبعها من أوضاع. وعليه يتزامن الأمر هنا بالسؤال عن نوعية القضايا التي تعالجها تلك المجلات، من حيث قربها أو بعدها عن أفكار ذات علاقة بمبدأ الحقوق الإنسانية والمساواة، وطموحات المرأة ودورها تجاه المجتمع.
والحديث على رغم شجونه يتطلب الموضوعية، إذ هناك بلاشك استثناءات نقر بها ونعترف. والحديث هنا يمس أساسا المجلات التي لا تبالي لقضايا المرأة الإنسانية، وينتفي حسها «الجاد»، وحسن نظرها وتقديرها لتلك القضايا في أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وعلى رغم أن الكثير منها يعظم أولوية الجانب التسويقي الذي ينشد الربح في تحقيقاته على المسئولية تجاه المجتمع، فهو يساهم بوعي أو من دون وعي بتنميط المرأة واهتماماتها وطموحاتها في سياق عملية التنميط المجتمعي التي هي الأخرى تختلف من مجتمع إلى آخر بحسب دينه وثقافته وقيمه وعاداته وتقاليده. ومن أكثر السمات المشتركة للتنميط، تلك التي تميز ما بين الرجل والمرأة، استنادا إلى عنصر الجنس. فالرجل رجل والمرأة امرأة، وما يحق لهذا يحرم على تلك، فضلا عن عوامل السن أو الانتماء الاجتماعي وما شابه. وعليه فالنموذج الذي تقدمه هذه المجلات يركز على الخصوصية النسائية المتعلقة بالأسرة والأطفال والمطبخ وجمال المرأة، وحصر اهتمامات النساء في مجالات الماكياج، والتبرج وهوس الموضة، كما يرسم لهن أدوارهن لنيل رضا الرجال عليهن ويتحملن مسئولية إزالة همومهم ومعاناتهم.
ولكن مهلا، أليس في ذلك مضرة شديدة على المرأة؟ أجل، ولن نختلف على ذلك، فخلافا لتعزيز الانطباع حول الشكل والجمال من دون الفكر، سيتسبب عن ذلك أيضا تعطيل نصف الطاقات النسائية، وقصر أدائها على الاستهلاك ضمن معايير ثقافية مؤثرة وبتفاوت على المدى البعيد في تطور المجتمع من عدمه. الحديث دائما لا يستهدف إقصاء لأمور الشكل والجمال، فهي جزء من ثقافة الشعوب التي نجلها ونحترمها، لكننا نريدها في ميزان لا يهمش ويتجاهل أو يقلل أبدا من معايير الوعي والفكر والمعرفة، لا بل يجتهد من أجل نشرها وسيادتها.
الإعلام غير الحر
مسئولية هذا الوضع، لا تقتصر على المعلنين، أو ملاك المجلات، أو المرأة نفسها التي ترضى الظهور كسلعة تسويقية أو تلعب دورا تسويقيا لمنتجات متنوعة من خلال الوسائل الإعلامية عموما، والمجلات النسائية خصوصا. أبدا، فالقضية أكثر تشابكا واتساعا في دوائرها المتشعبة، أنها كامنة في منظومة المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. بمعنى أن المجلات النسائية هي في نهاية المطاف جزء من منظومة وسائل الإعلام التي تدور في فلك نظام التنميط الاجتماعي، هذا الذي يبذل كل ما في وسعه كي يصيغ ويشكل الرأي العام ويوجه أفراد المجتمع وليس المرأة فقط.
تتباين الآراء ما بين مؤيد ومعارض لهذا الطرح، لكن اعتقادنا سيبقى يحوم حول وسائل الإعلام نفسها التي لم تعد حرة، فهي معولمة على رغم إرادتها، وتملك وتدار من قبل شركات عالمية احتكارية، وعلى أسس تجارية تساوي المليارات من الدولارات، وهي عرضة لعاملي العرض والطلب، مثلها مثل باقي السلع في السوق، وبالتالي لا تخلي مسئولية الأطراف الثلاثة التي سبق الإشارة إليها، مسئوليتها في ماذا؟ طبعا في حفظ حقوق الإنسان وكرامته، والتصرف بروح المسئولية عند ممارسة حرية الرأي والكلمة، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بحقوق المرأة الفعلية وليس الشكلية.
تعاني هذه المجلات - النسائية - من نواقص شديدة، لها أول ولها آخر، فمن أولها عدم الأخذ في اعتباراتها، نتائج تقارير التنمية الإنسانية التي تؤشر على واقع صعب تعيشه المرأة العربية، ويشكل سببا رئيسيا في تخلف مجتمعاتنا عن المشروع الحضاري، أضف إلى ذلك مشروعات التنمية الاجتماعية التي تجهد بعض الدول في تطبيقها من أجل الارتقاء بواقعها، والتي تستند في أساساتها على شعارات التمكين للمرأة ومساواتها، وآخرها أرقام تشيب شعر الرأس إن لم تسقطه، تعكس مستويات متدنية من ضعف التعليم والتدريب والأمية التي تعاني منه المرأة، كل ذلك لا تأخذه المجلات النسائية بجدية على رغم اقتحامها ليل نهار بيوت الخلق وأمكنتهم، كما لا تعير اهتماما للنواقص في التشريعات والقوانين ومدى مواءمتها للتغيير والتحديث ولصالح المرأة، مثل قانون الأحوال الشخصية. بل إنها لا تهتم لمعالجة ظواهر مثل العنف الذي يمارس ضد النساء إلا بأسلوب الكشف الفضائحي، فضلا عن ظاهرة التمييز الجنسي ضدهن، وإن اهتمت فهي لا تتعمق، كما لا تبحث عن الإجابات الشافية والكامنة خلف إخفاقات النسوة العرب في الوصول إلى مجالس إدارة الأحزاب والمنظمات السياسية، أو المجالس البلدية أو التشريعية، أو في إدارات الدولة وأجهزتها، أو حتى تحقق وبجدية في موقف المثقفين والقياديين السياسيين البارزين في مجتمعاتنا تجاه تطبيق نظام الكوتا (لماذا هم ضده؟ ولماذا لا يتركون الخيار للنساء كي يقررن القبول به من عدمه؟)، هذه كلها شكوك وظنون نطلقها، تحوم حول مدى جدية المجلات النسائية في التعبير والكتابة عما يمس المرأة من ظلم وقهر، من المهد إلى اللحد.
ك؛لن يكون إلا عبر برامج عملية تعالج شعارات مرحلية ذات صلة حقيقية، وتماس هموم النساء وقضاياها، تتبنى هذه البرامج قوى نسائية ضاغطة، تتمتع بالقدرة التعبيرية عن النساء في جميع وسائل الإعلام عموما والمجلات النسائية تحديدا، ويتوازى هذا الفعل، بصقل وتطوير مستمر للفكر والوعي والثقافة، كونهما أدوات التغيير الفعالة.
طبعا تبرز حاجة ملحة الى التواصل مع الآخر، وأقصد ثقافة المجتمعات الأخرى والبحث والتنقيب عن الأسباب والكيفية التي دفعت بالنساء إلى تحقيق الكثير على مستوى الحريات والحقوق في تلك المجتمعات، وحققت تقدما ملحوظا على مستوى المشاركة والفاعلية في أنشطة المجتمع وباطراد. أيضا من المهم مراجعة الشعارات الاستنكافية والرافضة لكل جديد بحجة عدم مطابقته الكلية مع ما لدينا، صحيح أن لكل مجتمع خصوصياته، لكن لتجارب الشعوب الأخرى إيجابات قد تنفعنا في التخفيف من حدة مشكلاتنا المستعصية. نعيد ثانية، البحث في هذه الإشكالات يستوجب التنقيب بعمق في أصلها وفصلها.
دعاية أدوية الصداع!
من هذه المعطيات، يبرز على السطح، دور الناشطات في مجال حقوق المرأة، كي يدققن ناقوسا قويا لمواجهة عملية التسطيح والتجهيل المفروضة، كما يبدو دورهن كبيرا وحساسا، لتوضيح الموقف من كم ونوع الإعلانات وتأثيرها، إذ ليس من المعقول إظهار المرأة في الإعلانات وكأنها المسئول الأول والأخير عن أداء الأعمال المنزلية والمعيشية، وهي التي تطهي الكبسات، وترضي الزوج، وتقف أمام المرايا والثلاجات وآلات الغسيل وأنواع مختلفة من مساحيقه، وهي الناعمة والحساسة لهذا الصابون أو ذاك الشامبو، والأدهى هي العليلة التي تستخدم أنواعا من مهدئات آلام الصداع من دون غيرها من أفراد الأسرة!
الوعي مطلوب لما تفعله هذه الإعلانات، وتحققه في مجال تجارة السوق ومستويات الأرباح، سواء أكانت في المجلات النسائية أو وسائل الإعلام المختلفة، فهي - أي الإعلانات - تتطلع للنساء كوسائل ترويجية، أكثر منهن صاحبات حقوق، وعليهن أدوار اجتماعية أو سياسية تجاه مجتمعهن. ودعوة اليوم كما الأمس، جادة لمحاربة موجة التسطيح والاستغلال، وهي تتبلور عبر الاهتمام بالتوعية لثقافة حقوق الإنسان عموما والمرأة خصوصا، وكشف مكامن الخروقات لهذه الحقوق، وخصوصا ما تقوم به بعض المجلات النسائية، فضلا عن المطالبة بفرض رقابة على قوانين السوق التسويقية، والتركيز على نواقصها والتزاماتها تجاه عدم استخدام المرأة كمادة استهلاكية، وبما يتعارض مع كرامة المرأة وقيم وحقوق الإنسان المتعارف عليها دوليا
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 615 - الأربعاء 12 مايو 2004م الموافق 22 ربيع الاول 1425هـ