العدد 613 - الإثنين 10 مايو 2004م الموافق 20 ربيع الاول 1425هـ

رسائل الدبلوماسيين المتقاعدين

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

فرح بعض العرب كثيرا برسالة الخمسين دبلوماسيا البريطانيين لرئيس الوزراء البريطاني طوني بلير، التي طالبوه فيها، أما أن يؤثر على إدارة بوش في موضوع الشرق الأوسط باتجاه حقوق للفلسطينيين، أو أن يوقف تأييده لسياسته، ولحقتها رسالة أخرى وقعها أيضا خمسون دبلوماسيا أميركيا متقاعدا للرئيس جورج بوش يطالبونه بتغيير سياسته في الشرق الأوسط والخاصة بفلسطين، كلتا الرسالتين تقع قضية فلسطين في صلبهما.

الذي فات على الكثيرين أن المتقاعدين من السلك السياسي البريطاني أو الأميركي أو الكثير من الأوروبيين الذين تركوا العمل الحكومي النشط، سرعان ما يميلون إلى تأييد وجهة النظر العربية، وخصوصا في الموضوع الفلسطيني، ولكن غالبيتهم يمتنع عن إظهار التأييد أو التعاطف في هذه القضية وهو في الخدمة العامة النشطة.

ماذا يعني ذلك؟

انه يعني من ضمن أمور أخرى، أن الرأي العام الأوروبي أو الأميركي لا يميل إلى تأييد الموضوع الفلسطيني، سواء سياسيا أو حتى إنسانيا، ولو كان الرأي العام له وجهة نظر مؤيدة لما استطاع السياسيون إلا أن يتبعوه، ويعلنوا، بل ويتسابقوا على إعلان التأييد للقضية الفلسطينية.

الفشل العربي هو الذي أدى إلى أن قطاعات غربية كبيرة لا تهتم بهذا الموضوع وبالتالي لا تضغط على سياسيها من أجل اتخاذ موقف حاسم تجاهه.

لا أريد أن اكرر هنا أن السياسة الإسرائيلية في العقود الخمسة السابقة ألحقت بالفلسطينيين أضرارا بالغة العمق وغير مسبوقة من إشكال الظلم، ربما تساوت أو فاقت الضرر الذي لحق باليهود على أيدي النازيين، فذلك أمر يسلم به كل عاقل ومتابع، وما تنقله لنا وسائل الاعلام العالمية يوميا من اضطهاد للشعب الفلسطيني تثير العاقل وتستفز الحكيم، ولكني أريد أن أؤكد أن كل هذا الظلم لم يصل إلى قطاعات واسعة من المجتمعات الغربية، بسبب فشل ذريع في طريقة توصيل الرسالة سواء فلسطينيا أو عربيا.

الإحساس بالظلم الشديد جعل قطاعات واسعة من الفلسطينيين يعتقدون أن التعاطف معهم لا يحتاج إلى مجهود، وان قضيتهم لا تحتاج إلى شرح، فهي بينة ظاهرة للجميع، وذلك خطأ لايزال البعض يرتكبه عن إهمال أو عن جهل.

قطاعات واسعة في الغرب لا تعرف أين تقع فلسطين جغرافيا، ولا تعرف الفرق بين الفلسطيني العربي وبين اليهودي الإسرائيلي، بل تعتبر «إسرائيل» الحالية هي «إسرائيل» التوراة!

وعلى رغم أن الفلسطينيين أنفسهم قد انتشروا في ارض الشتات ومنها اراض غربية وأميركية، فإن تنظيمهم للدفاع عن قضيتهم، مع عرب آخرين، لم ير النور الا منذ بضع سنوات، ومع ذلك فقد انتقل اليهم الكثير من الخلافات السياسية السائدة في ارض العرب، فخسروا في أن يظهروا للمواطنين في بلدان المهجر عدالة القضية التي شتتهم. والخطاب السائد في لهجة وتصرف كثير من القيادات الفلسطينية، وأنا اعني هنا الغالبية، تميل إلى العاطفة والهوى والأماني والتمجيد والبعد عن مخاطبة الواقع والتعامل معه بالجدية التي يتطلبها.

لقد خسر الفلسطينيون كثيرا عندما لم يتبينوا آثار 11 سبتمبر/ أيلول الذي ضرب الولايات المتحدة في عقر دارها وهز قواعدها على قضيتهم، فأصبح «الإرهاب» متماثلا في ذهن المواطن الغربي مثله مثل «البشر الانتحاريين» في الأرض الفلسطينية، وان كان الأمر يحتاج إلى مقارنة، طبعا مع الفارق، فإننا نقرأ في كتاب ريشرد كلارك «ضد كل الأعداء» الذي صدر أخيرا، فصلا لافتا للنظر في تطور العلاقات الإسرائيلية الأميركية، فهو ينقل ضمن الرصد أن الكونغرس الأميركي قد أصدر قرارا بتحريم التعامل مع جنوب إفريقيا العنصرية في ثمانينات القرن الماضي، واقر القانون أن الولايات المتحدة ستقاطع الدول التي تتعامل مع جنوب إفريقيا اقتصاديا ان هي اخترقت ذاك القانون. ويذهب الكاتب ليصف العلاقات القائمة آنذاك بين «إسرائيل» وجنوب إفريقيا، على أنها علاقات اقتصادية وعسكرية بالغة العمق ومتوسعة واستراتيجية.

وعلى رغم أن «إسرائيل» وقتها كانت ستخسر كثيرا من تلك المقاطعة، فإنها امتثلت للقرار الأميركي، وقامت بالمقاطعة الشاملة والواضحة، والإشارة لها معناها الذي لا يخفى، فالاستخفاف بالصدمة الأميركية من جراء 11 سبتمبر، الذي تبناه بعض العرب، والسياسات اللفظية أو العملية التي تبن.ريق العداوة و النفور، وفي الكواليس هناك قبول أو على الأقل علاقة مفرغة من العداء مع «إسرائيل»! ولا يستثني حتى بعض القادة الفلسطينيين من ذلك.

مثل هذه المواقف تجعل المراقب الغربي في حيرة ولا يتحمس بعدها إلى التطلع للضغط على متخذي القرار في بلده، لأنه يواجه بحقائق (الثنائية العربية)، بل والثنائية الفلسطينية في بعض الأوقات.

في هذا الجو السياسي المحيط بالعرب والبالغ السيولة، تستفيد «إسرائيل» من كل المعطيات والتغيرات السريعة في الفضاء الدولي، ويردد العرب المقولات القديمة نفسها.

لعل العامل الحاسم في رسائل المتقاعدين البريطانيين والأميركان الاعتراف من قبل المجموعة الأولى (البريطانية) أن المفاتيح الحاكمة في هذا الموضوع هي في يد القابض على السلطة في واشنطن، والقابض على السلطة هناك يعاني صعوبات في العراق ولا يجد المساعدة الا بالكثير من التحشيد المضاد لسياسته قولا وبعض الأوقات فعلا، وهو تحشيد كلامي وشعاراتي لا يغني العراق ويفكها من الاحتلال، ولكنه يسحب التعاطف من القضايا العربية وعلى رأسها فلسطين، يكاد الأميركي ألا يجد حليفا لسياسته الا في «إسرائيل» متفهمة لدوره قابلة به.

على رغم أن خطابي المتقاعدين الدبلوماسيين البريطانيين والأميركان له من الأخلاقيات والمبادئ اليد العليا، فإنه خطاب يجب ألا نأخذه نحن العرب بأكثر ما يعنيه، وهو موقف أخلاقي وقانوني يقف مع الحق الذي نعرف، إلاّ أن قدرته على التأثير السياسي قليلة لا تكاد تذكر في الرأي العام الغربي.

البديل هو سياسة عربية واضحة المعالم، تتخطى الانسياق للخطاب المتشدد الذي لا يقيس موازين القوى، وتقدم بديلا عقلانيا في هذا الظرف بالغ التعقيد والسيولة السياسية، دون ذاك سيظل القول هو العالي في الجانب العربي، والفعل هو المحقق في الجانب الإسرائيلي

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 613 - الإثنين 10 مايو 2004م الموافق 20 ربيع الاول 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً