«مسموح لك بحرية التفكير كما تشاء، وحرام عليك حرية التعبير إلا كما نشاء» بهذه الكلمات القلائل نستطيع أن نلخص أوضاع المثقف العربي، ونحن نلج الألفية الثالثة وكأن هذا الشعار (حرية التفكير وحرمة التعبير)، قد أصبح قانونا يرفع فوق الرؤوس لتراه الأعين وتبصره في كل حين.
في العام 1999، استطاع المجتمع الأميركي أن يضع أكبر شخصية سياسية في البلاد تحت المساءلة، في حكاية تروى عن أمة تنجب رؤساء عظاما، تحاكمهم وتستبدلهم وتستغني عن خدماتهم، فلا يعودون إلى سدة الحكم من جديد. هكذا فعلوا مع رئيسهم السابق «بيل كلينتون» الذي كاد أن يفقد منصبه بعد فضيحة أخلاقية.وهكذا طردوا رئيسهم الأسبق «ريتشارد نيكسون» بعد فضيحة «ووترجيت» أما نحن - وما ادراك ما نحن؟ كمن يفترض به أن يدخل الجامعة، وإذا به يدخل مدارس محو الأمية!! في صور هزلية مضحكة.
«ياقَومَنَا أجيبوا دَاِعيَ اللهِ» (الأحقاف:31)، فلا بد من حرية ومن دون حجر على حريات الناس الذين خلقهم الله أحرارا... فهذا انفع لهم ولكم من سراديب الظلام وخفافيش الليل، وهمزات الشياطين .
بالتعبير تظهر وجهات النظر، فتتزاوج وتتناقص وتتوالد ويحدث التكاثر، وهذه سنة الله في خلقه من يوم خلقهم. ولكننا نريد مواطنا عربيا أخرس، يفكر عنه آخرون بالوكالة، معلنين الوصايا على عقله وقلبه وعواطفه، في شهادة صاعقة انه قاصر ومازال في المهد يرضع من قنينة الحليب التي جلبتها له دولته.
عندما نعبّر عما في نفوسنا تطفو الافكار فتخضع للفحص والتمحيص والنقد، ثم للتهميش أو الترسيخ.
أما المطاردة فتدفع الافكار إلى الانزواء في البراري والجبال أو إلى الاحتقان ثم الثورة العارمة الماحقة. هكذا حدث مع شاه ايراه وهكذا حدث مع طاغية رومانيا شاو شيسكو، ومع كل طاغية في التاريخ كبت حريات شعبه وحجر على آرائه. إنني أدعو الى تأسيس مجتمع مدني إنساني منفتح على الآخر وعلى ثقافة العصر بحيث توضع له القواعد الآتية: تفكير من دون حدود، وتعبير من دون قيود، وكتابة وطباعة من دون رقابة إلا رقابة الدين والضمير، وإلغاء نظام التجسس على المواطن العربي، فلا يؤاخذ بشيء إلا بذنب جناه بدليل مادي، مع توفير ضمانات الدفاع عنه، وليس لتقرير كتبه مخبر سري تحت جنح الظلام!
لقد أمرنا القرآن الكريم بأربع وصايا هي: (حسن الظن) و (عدم التجسس) و(عدم الغيبة) و(عدم السخرية)، ولكننا عملنا عكسها بحرص وادب شديدين، فلا نحسن الظن بالانسان العربي والمسلم والأصل عندنا إنه متهم حتى تثبت براءته، ونملأ القوائم السوداء من المطلوبين على الحدود والمطارات، ونغتاب الآخر على انه رجعي أو ملحد أو علماني، ونسخر من أقوام يعيشون بين ظهرانينا عقودا طويلة بأنهم غير اصلاء، أو بتعبيرنا نحن أهالي الخليج(بياسر) لا أصل ولا فصل لهم، مع ان جنسية الانسان المسلم هي عقيدته وليست جواز سفره. وأنشأنا أنظمة أمنية تجسسية بحجم شبكة الانترنت، تحسب على المواطن العربي أنفاسه وزفرات صدره في ليله ونهاره بينما بعض الدول العربية تفتقر إلى الخدمات العامة من صحة وماء وكهرباء وصرف صحي، وتعيش هذه الأوطان حال الطوارئ إلى يوم يبعثون.
لقد وقف فرعون مخاطبا قومه: «ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد» (غافر: 29)، فكان أن هداهم إلى (اليّم) فأغرقهم الطوفان العظيم «وأضلّ فرعونُ قومَهُ وما هَدَى» (طه:79)... «فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين» (الزخرف: 55)... إنها النتيجة الحتمية للأمة كلها عندما يفكر عنها شخص واحد فرد، تشوبه - مثل غيره - النواقص والنقائض من كل حدبٍ وصوب.
هل لا توجد عندنا حرية تعبير، أم أنه لا يوجد عندنا ما نعبر عنه؟ وهل هناك عائق أمام انتشار الكلمة الحرة والصادقة، فهي محاصرة لا يسمح لها بالتجوال، أم أنها تمارس عملية انتحار داخلي؟
السياسيون يقولون إنه لا توجد حرية تعبير بسبب استبداد الحاكم! ولكن هل المعارضة ستسمح للحاكم بالتعبير لو جلست محله وتصرفت كتصرفه؟ لقد تحدثوا في ايران عن استبداد (الشاه) ومصادرته للحريات العامة، وتصفيته للمعارضين وتعذيبهم في سجون (السافاك) الرهيب، فلما وصل بعض من كان مظلوما إلى مراكز الامن والاستخبارات قاموا بتصفية معارضين لهم. إنها والله الحلقة الجهنمية التي لافكاك منها ولا خلاص من أسرها إلا بإعطاء الناس حريتهم التي منحها الخالق العظيم لهم يوم أن قال «ولقد كرمنا بني آدم» (الاسراء:70).
لقد أحسن (حزب الله) اللبناني في يوم انتصاره على جيش العدو الصهيوني، فلم يقتل أو يعذب العملاء عندما ألقى عليهم القبض، بل سلمهم إلى السلطة اللبنانية تحاسبهم وتعاقبهم بعد أن تحاكمهم في قصر العدل. إن قوم موسى عليه السلام كانوا يستعجلون مثل هذا الامر - أي تغيير الحال - فقالوا له: لم تتغير أوضاعنا، وكنا نتفاءل أن يصير الأمر إلينا: «أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جِئتنا» (الأعراف: 129)، فلم يتغير شيء والحال هي هي.
فكان جواب موسى عليه السلام، ان الامتحان الأكبر عندما تسقط تفاحة السلطة في أيديكم، هل ستتحولون إلى فرعون جديد بعباءة توراتية؟ «قال عسى ربُكم أن يهلكَ عدوَّكم ويستخلفَكُم في الأرضِ فينظرَ كيفَ تعملُون» (الاعراف: 129).
إن إمكان إيجاد المثقف الملتزم بقضايا دينه وأمته، الذي ينشد التغيير ويطلبه من دون أن يدخل في جيب الحاكم أو أن يأكل من مائدته أو يتآمر عليه، أصبحت مهمة عسيرة على ما يبدو. جاء في الانجيل: «إذا فسد الملح، فبماذا يمُلّح؟ وإذا كان النور الذي فيك ظلام، فكيف يكون الظلام إذا».
وإذا كان المطلوب من المثقف العربي الكلام وهو مقطوع اللسان، فكيف يسمع ويرى صيحات المظلومين وأنات المعذبين في الأرض؟ وإذا كان المسئول يقفل عليه باب مكتبه، فكيف تصل إليه شكاوى الناس؟ ولكن لماذا ننتمي نحن إلى العالم الثالث، وتسمى أوروبا وامريكا وكندا بالعالم الأول؟
إن الغرب دفع ثمن الرحلة إلى الديمقراطية غاليا حتى وصل إلى شواطئها. بينما نحن لا نستوعب معنى «فصل السلطات». نحن نعيش في حال الطوارئ ولا نعرف ذلك. نحن نعيش خارج القانون ولا ندري. نحن نستورد السيارات والمجالس النيابية، ولكننا لا نستطيع إنتاج السيارات ولا إيجاد حياة نيابية نظيفة وصحيحة، إلا على شكل (كاريكاتور) من دون حياة ، في قصة مترجمة يرويها «أخرس مهمته الكلام»
العدد 61 - الثلثاء 05 نوفمبر 2002م الموافق 29 شعبان 1423هـ