في خليج العرب جزيرة صغيرة تبدو صغيرة على الخريطة، تعاقب عليها الغزاة والمستعمرون، وتركوا فيها مليون قبر حيّرت العلماء، بها ينابيع تخرج الماء عذبا من أعماق البحر وآبار تخرج الزيت من بطن الأرض... كتب عنها هيرودوت منذ ألفين وثلاثمئة وخمسين سنة، إذ كتب يقول: «إن أهالي المناطق المجاورة كانوا ينقلون موتاهم إلى قبور لهم في جزيرتي تيروس وهما (المنامة والمحرق) في مواكب مقدسة»... وكتب عنها (ابن بطوطة) و(السندباد البحري)... كما كتب عنها الرحالة الإيطالي المشهور (ماركو بولو)، ومر بها، الاسكندر... وماتزال فيها حتى اليوم آثار عدة من الصيني أو من الحجر، تنم عن انه كان من بين الذين ارتادوها في غابر الزمان.
وكذلك (جنكيز خان)... ملك المغول، الذي امتدت غزواته حتى شملتها فيما شملت من البلاد والأقطار... وتيمورلنك...! ... ذلك الطاغية الذي أهلك الحرث والنسل... لم تسلم من غزوه واحتلاله أرضها. احتلها البرتغاليون ردحا من الزمن، أقاموا فيها خلالها القلاع والحصون، وظنوا انهم فيها خالدون، فما لبثوا ان طردوا منها.!... وقصدها الفرس بقيادة ملكهم (نادر شاه)... لكنهم بدورهم انهزموا... هزمهم العرب العام 1691.! و حكمها المصريون أيضا... بقيادة إبراهيم باشا، إذ بسطوا عليها سلطتهم... ومن بعد ذلك ظلت الحروب تتوالى عليها وتتعاقب... بحسب ما يذكر المؤرخون: 35 حربا في مئة وسبعين عاما... جزيرة صغيرة من جزر الخليج سميت بأوال ودلمون... تمتلئ بقبور الغزاة الذين حاولوا احتلالها... هذه القبور ليست لأهلها، وانما قبور الغزاة والمحتلين... من الآشوريين والكنعانيين والبابليين والكلدانيين والفينيقيين، واليونان والفرس، ممن تعاقبوا عليها، ثم مضوا في النهاية، كما يمضي الغاصبون... مخلفين وراءهم قبورهم.
هذا البلد الصغير، والذي يشهد الجميع بتاريخه الحضاري، ونضال شعبه من أجل تحرير وطنه من براثن المحتلين، مازال ينال اهتمام الباحثين والمؤرخين العرب والأجانب، الذين اعجبوا لحال التطور الذي حصل ويحصل في البحرين حاليا من تغيرات وإصلاحات ديمقراطية، وسياسية واجتماعية، وما هو إلا امتداد لتاريخ من النضال الشعبي، والتضحيات الكبيرة التي قدمها المواطن البحريني.
إن التاريخ النضالي والمقاوم لشعب البحرين، والإرادة الصامدة لبناء مجد أفضل لهذا البلد، أدى إلى تحقيق النتائج المثمرة والطيبة، والتي انعكست إيجابا على الأوضاع، وخلقت الجو الإيجابي للانفتاح والتقارب ما بين الدولة والمجتمع، خصوصا النخب السياسية.
فمجتمع البحرين يعد من أكثر مجتمعات المنطقة إدراكا لمتطلبات التنمية بمختلف أشكالها، وأكثر عراقة في النظم المجتمعية والثقافية، وأكثر تحررا من القيود التقليدية الكامنة ذات السمة الرجعية، حيث طبيعة المجتمع الزراعي الديني القديم الأكثر قبولا وشغفا بالاندماج المدني الحضاري. ويشير إلى ذلك نشوء الحركة التعليمية وانتشار المنتديات الثقافية وتأسيس بعض جهات المجتمع المدني، في حياض القطاع الأهلي عند مطلع العقد الثاني من القرن الماضي، قبل خضوع السلطة على مدارج الحركة السياسية البحرينية الداعية إلى بناء سلطة أكثر تحررا من قيود القبلية، وأكثر قبولا وانسجاما مع قوى التحريك والنماء السياسي والاجتماعي والثقافي.
إن ما حدث في البحرين من تطورات سياسية خلال السنوات الثلاث الأخيرة، بعد غياب للممارسة الديمقراطية ومؤسسات المجتمع المدني لوقت طويل... تم من خلاله تقديم تضحيات كبيرة طالت فئات الشعب البحريني كافة، إذ لم تكن هذه التحولات الإصلاحية نتاج التقاعس والكسل أو هبة جاءت من فراغ، بل نتيجة لتضحيات تنوعت أشكالها وإفرازاتها. فالتحول الإصلاحي الذي حدث، والذي أيدته قوى المعارضة السياسية كافة على مختلف توجهاتها، جاء بمبادرة مشتركة من قبل الحكومة والمعارضة، والتي آلت على نفسها رأب الصدع والانهيار الذي وصلت إليه الأمور في البحرين خلال العقدين الماضيين. فالجميع يتفق حكومة ومعارضة على أن الأمور لابد من إصلاحها بما يكفل للمواطن البحريني سبل العيش المستقر والحياة الكريمة يمارس فيها حقه السياسي والثقافي، من دون أي نوع من الرقابة التي تملي عليه المواقف، وهذا ما لوحظ في الآونة الأخيرة، بحيث أصبح المواطن البحريني أكثر ممارسة لحقوقه السياسية والديمقراطية، عبر تشكيل التجمعات السياسية وعبر الإعلام، وفي التصويت... ومهما قيل عن الانتخابات وعن التحول الإصلاحي الذي حصل خلال هذه الفترة، إلا انه يعد خطوة إلى الأمام... على الجميع حكومة ومعارضة ان تستفيد من هذه الفرصة، فرصة المصالحة ونسيان الماضي، من أجل بناء مستقبل أفضل للأجيال القادمة، وان يكون هناك تنازل من الطرفين، وعدم التعصب في الآراء والاستفراد بها... من أجل صفاء الأجواء، ومناقشة الأمور بهدوء... فالماضي ولّى ولن يعود بمشيئة الله، والمقبل هو الأفضل.
فالمنظر الجميل، الذي رأيناه خلال فترة التصويت لانتخاب أعضاء البرلمان، وعودة الحياة الديمقراطية، أثار اهتمام وسائل الإعلام المحلية والعربية والعالمية كافة، ولم تترك أحدا إلا وعبر عن ارتياحه العميق لهذه التجربة البناءة، والتي تعتبر النموذج الحي لحقيقة واحدة، ألا وهي ان الشعوب العربية ملت الكبت وتكميم الأفواه... وهذا ما يرغب فيه كل مواطن عربي... وعلى رغم الكلام الذي قيل، والمقالات والموضوعات السياسية التي طرحت عبر الوسائل المرئية والمقروءة عن الانتخابات ودعوة بعض قوى المعارضة لعدم المشاركة فيها، وانها لا تفي بالغرض المطلوب، وبأن ما قام به ملك البحرين يعتبر نوعا من التراجع الذي وعد به منذ طرح الدستور، والذي وعد فيه بتشكيل مجلسين الأول معين والثاني منتخب، وبحيث يشكل المعين ثلث الأعضاء والمنتخب الثلثين، وقام بتعديل آخر بحيث أصبح عدد أعضاء المعين النصف والمنتخب النصف... على رغم كل ذلك إلا ان الشعب البحريني اتخذ من جانبه قراره عندما شاركت الغالبية بنسبة 53,2 في المئة في الانتخابات، والتي تعتبر خطوة أولى باتجاه إعطاء الشعب البحريني المسئولية، والتي يأمل كل مواطن خليجي ان يحرص الشعب البحريني على تحسين وتطوير هذه التجربة، وعدم ترك المجال لضعاف النفوس بتدميرها... فالتحديات المقبلة على طريق البرلمان ليست بالقليلة أو الهينة، والمخاطر التي تحيط بالمنطقة تتطلب وعيا ونضجا سياسيا، يقي هذا البلد من كيد الأعداء والمريدين.
على جميع القوى السياسية الفاعلة ان تتلاحم مع الدولة من أجل إنجاح التجربة السياسية الديمقراطية في البحرين، ولحفظ حقوق المواطن وصون كرامته، فالتجربة الإصلاحية في البحرين، تعتبر من أكثر التجارب نضجا في الخليج
العدد 60 - الإثنين 04 نوفمبر 2002م الموافق 28 شعبان 1423هـ