لفت تاريخ 20 ابريل/ نيسان أنظار العالم مرة جديدة إلى انفراد «إسرائيل» بامتلاك أسلحة الدمار الشامل دون سواها في منطقة الشرق الأوسط. ففي هذا اليوم تم الإفراج عن الخبير الإسرائيلي موردخاي فعنونو الذي كشف للرأي العام العالمي الكثير عن أسرار القوة النووية الإسرائيلية ودفع ثمن ذلك ضريبة الحبس ثمانية عشر عاما، وربما العيش بقية العمر مقيد الحرية في بلد يدعي الديمقراطية. وبينما يراه البعض، وخصوصا أنصار السلام والقوى المناهضة للأسلحة النووية، رجل سلام... وكان فعنونو أدلى بتصريحات هزت العالم عن البرنامج النووي الذي كان موضع ريبة وقدم الأدلة على حيازة «إسرائيل» أسلحة الدمار الشامل. وعلى رغم أن تصريحاته لم تسفر عن ردود فعل قانونية وسياسية لكنه طالب المجتمع الدولي أن يعبر عن موقفه ويطالبها بالكف عن اللعب بالنار.
المسئولون في «إسرائيل» يتذرعون بالذريعة نفسها لدى سؤالهم عن حقيقة البرنامج النووي إذ يكررون عبارة: «ان (إسرائيل) ليست أول بلد يملك الأسلحة النووية في المنطقة»، لكن يصعب عليهم تقديم الدليل على امتلاك دولة أخرى في المنطقة لمثل هذه الأسلحة. وقد شنت الولايات المتحدة حملتها العسكرية على العراق بهذه الحجة، لكن بعد مرور أكثر من عام على الحرب، وعلى رغم وجود 148 ألف جندي أميركي في العراق فإنه لم يعثر عليها، في الوقت الذي تشير فيه تقارير دولية محايدة ومنذ سنوات إلى أن «إسرائيل» تملك على الأقل 200 رأس نووية يمكن استخدامها ضد الدول العربية ووصولا إلى أوروبا.
إن فكرة برنامج الأبحاث النووية الإسرائيلية قديمة قدم الدولة العبرية نفسها. وصاحب الفكرة هو ديفيد بن غوريون الذي قال آنذاك: «أنا لا علم لي بدولة يصارحها جيرانها علنا برغبتهم في القضاء عليها، وأرى بأنه يوجد مجال لا نقد فيه بالتأكيد عن سائر البلدان الأخرى ألا وهو العقل اليهودي. وأنا مطمئن لأن العالم سيزودنا بسلاح يمكننا من ردع أعدائنا». واستعانت «إسرائيل» حقا بعقول يهودية وكذلك بدعم من عدد من الدول الغربية في مقدمتها الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا، التي كان لها دور بارز في حصولها على المواد الأساسية لبناء القنبلة الذرية. فقد شهد عقد الخمسينات تنفيذ المشروع النووي الإسرائيلي وذلك على يد بيريز الذي كان آنذاك مدير قسم بوزارة الدفاع، إذ وقع اتفاقا سريا مع فرنسا تم بموجبه تسليم «إسرائيل» مفاعلا نوويا لإنتاج مادة البلوتونيوم وأنشيء في صحراء النقب.
تعرضت العلاقات الأميركية الإسرائيلية لفترة قصيرة إلى توتر في مطلع الستينات عندما التقطت طائرة استطلاع أميركية صورا لمفاعل ديمونة الذي كانت «إسرائيل» تزعم أنه مصنع للنسيج، ولكنها سمحت لفريق تفتيش أميركي بتفقده، واستخدمت طرق ملتوية كي يعود الفريق إلى بلده بتقرير إيجابي من وجهة النظر الإسرائيلية. وتدخل اللوبي اليهودي في واشنطن لدى الرئيس ريتشارد نيكسون كي يغض النظر عن مفاعل ديمونة. وقال الكيماوي أوسي إيفن وكان آنذاك عضوا بالفريق العلمي بديمونة: تحدثنا طويلا مع الأميركيين واشرنا لهم إلى حوادث المحرقة النازية وقلنا إننا نعمل من أجل ألا تحصل محرقة ثانية لليهود وأقنعناهم بأن ما نقوم به ضروري للحفاظ على وجودنا. ويوضح روفين بيداتسور المحاضر بقسم الدراسات الاستراتيجية في جامعة تل أبيب قائلا: «تم الاتفاق سرا العام 1969 بين رئيسة الوزراء غولدا مائير والرئيس نيكسون وعدت واشنطن بمقتضاه الدولة العبرية بعدم إرغامها على التوقيع على المعاهدة الدولية للحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل، وفي المقابل وعدت «إسرائيل» بعدم الإدلاء بتصريح رسمي بشأن امتلاكها للأسلحة النووية واختبارها لهذه الأسلحة. وإلى اليوم يجري العمل بهذه السياسة».
وتوصف هذه بسياسة الغموض النووي أو بمنظومة «القنبلة في القبو». ويرجح المراقبون في الخارج بأن عدد امتلاك «إسرائيل» 200 رأس نووية يجعلها سادس أكبر ترسانة في العالم. وعلى رغم أن العالم بدأ يعي حقيقة هذه الترسانة فإن «إسرائيل» متمسكة بأسلحتها النووية ومحظور مناقشة موضوعها علنا فيما تبين عمليات استطلاع الرأي في «إسرائيل» أن غالبية الإسرائيليين يؤيدون امتلاك بلدهم هذه الأسلحة الفتاكة.
ويرى خبير قضايا الشرق الأوسط الألماني بيتر فيليب أن وصمة المعايير المزدوجة هي أقل تهمة توجه لـ «إسرائيل» عن خلفية فضيحة كاشف أسرار البرنامج النووي الإسرائيلي موردخاي فعنونو الذي أطلق سراحه بشروط متشددة. فهذا الرجل الذي جلس في سجن عسقلان 18 عاما أكد للعالم ما كان يتكهن به ألا وهو أن «إسرائيل» دولة نووية، وأنها قامت من دون أي قيد دولي ومن دون الالتزام بأي اتفاق دولي بتطوير برنامجها النووي ولم تخضع إلى اليوم إلى مساءلة دولية مثلما تطلب الولايات المتحدة وأوروبا والوكالة الدولية للطاقة الذرية من دول مثل ليبيا وإيران وبإلحاح من «إسرائيل» ذاتها بل وبمبادرة منها في أحيان كثيرة. وقال المعلق الألماني: طبعا فإن «إسرائيل» تحظر وضعها على قدم المساواة مع هذه الدول، ولكن من يزعم أنه يدافع عن قيم أخلاقية رفيعة عليه أيضا أن يطبقها دون مواربة. و«إسرائيل» معروفة جيدا بأنها لا تطبق المبادئ التي نسبتها لنفسها، في التعامل مع خصومها، لا فيما يتعلق بقادة «حماس» ولا المسألة النووية. ومارست «إسرائيل» سياسة التضليل بحق جميع الذين قدموا لها خدمات لبناء مفاعلها بمن فيهم الأميركيين والأوروبيون وكذبت عليهم. والسؤال: هل تصرف الغرب بغباء أم أنه كان يعرف حقا أن هدف «إسرائيل» في بناء مفاعل ديمونة كان إنتاج أسلحة نووية وأن الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا بالذات كانت تعرف أكثر مما تعترف به فعلا؟.
كان بوسع فعنونو أن يتحول إلى بطل لو حرص الغرب على الاهتمام بتصريحاته وكانت لديه نوايا حقيقية في فضح «إسرائيل»، لكن هذا ليس متوقعا من الغرب المنحاز لـ «إسرائيل». كان فعنونو في سن السادسة من العمر حين هاجر مع أسرته من المغرب إلى «إسرائيل» في العام 1963، وهناك تلقى التعليم على أيدي مدرسين يهود متعصبين، ثم أدى الخدمة العسكرية الإلزامية. وفي العام 1976 عين فنيا في مفاعل ديمونة، وكان العمل يجري تحت الأرض منذ الخمسينات لبناء برنامج نووي لإنتاج القنبلة النووية ومادة البلوتونيوم. وعمل فيه فعنونو تسع سنوات، ومع الوقت تغير فنونو الذي انكب على دراسة الفلسفة وتقرب من الإيديولوجية الشيوعية وراح يتعاطف مع الفلسطينيين، لأنه أدرك الظلم الذي تلحقه «إسرائيل» بهم. في العام 1985 حين صدر قرار بإعفاء 180 موظفا من عملهم في ديمونة خسر فعنونو وظيفته، ونجح قبل ذلك في التقاط مجموعة كبيرة من الصور سرا لمحتويات المفاعل، وجمع وثائق سرية تتعلق بالعمل فيه.
وحمل معه ضميره باحثا عن مستقبل وهوية، وتحت وازع بكشف سر «إسرائيل» الرهيب للعالم، حط الرحال في بانكوك ثم موسكو وكاتمندو وأخيرا في سيدني حيث التقى بالقسيس ديفيد سميث وكشف له عن هويته وما لديه. وأصبح فعنونو على استعداد للتخلي عن الوطن المصطنع «إسرائيل»، وأول ما فعله تخلى عن يهوديته واعتنق الكاثوليكية. وعبر وسطاء في سيدني عرض على صحيفة «صنداي تايمز» اللندنية قصة الكشف عن سر مفاعل ديمونة. وأرسلت الصحيفة إلى سيدني أحد محرريها الذي عاد إلى لندن ومعه فعنونو وصوره ووثائقه، لكن بمجرد أن نشرت الصحيفة الاعترافات الخطيرة على صفحتها الأولى اختفى أثر فعنونو، وعرف العالم لاحقا أن «الموساد»، استخدمت ذراعها الطويلة في لندن وقامت شابة أميركية جميلة عميلة في الموساد بالإيقاع به، ووعدته بعطلة حب في روما، وفور وصوله اختطفه الموساد وخدروه ووضعوه في صندوق خشبي تم شحنه إلى «إسرائيل» بحرا. وهناك اتهم بالخيانة العظمى وحكم عليه بالحبس 18 سنة.
وأمضى فعنونو 12 عاما في السجن الانفرادي ثم تم تخفيف إجراءات الحبس. اعتبره مؤيدو السلام في العالم بطلا وكانوا يغدقون عليه بالرسائل وتسلم شقيقه نيابة عنه جائزة نوبل البديلة للسلام. وبعد الكشف عن المفاعل لم يشعر الإسرائيليون بالتعرض إلى ضرر طالما أن الغرب يغض النظر عن ترسانتهم النووية أو يطالبها بالتخلي عن أسلحة الدمار الشامل. ويقول محرر الشئون الخارجية في صحيفة «زود دويتشه» بيتر مونش: «لقد أدرك الإسرائيليون أن فعنونو لم يلحق أذى بـ «إسرائيل» بل على العكس أن كشفه عن سر ديمونة نقل رسالة إلى العرب مفادها أن «إسرائيل» تملك أسلحة رادعة وأنها متفوقة عسكريا عليهم. وهي طريقة الردع التي كان يجري العمل بها بين الغرب والشرق إبان الحرب الباردة.
هل كان فعنونو مجرد دمية في لعبة كبيرة؟ بالنسبة إليه المسألة لم تنته بعد على رغم نهاية مدة حبسه. قبل أسبوعين زاره في السجن عملاء الموساد وأكد لهم عدم شعوره بالأسف عما فعله وقال إنه يرغب في الهجرة إلى الولايات المتحدة حيث يعيش والداه بالتبني نيك وماري أولوف، وكانا في العام 1997 أعلنا تبني فعنونو البالغ اليوم 49 عاما. لكنه حتى بعد خروجه من السجن سيظل مثقلا بالشروط لخوف «إسرائيل» أن يفصح عن معلومات جديدة عن ديمونة، وهو ما ينتقده خبراء كثيرون في «إسرائيل» يقولون إن عشرين عاما مدة كفيلة بأن يكون كل شيء تغير في ديمونة وأن فعنونو لا يملك معلومات عما يجري في هذا المفاعل اليوم. ومحظور على فعنونو الاقتراب من سفارة أجنبية أو ميناء أو استخدام الإنترنت، أما جهاز الهاتف في منزله فإنه يخضع لمراقبة دائمة وممنوع من أن يتحدث مع صحافيين وأشخاص أجانب أي أنه مستمر في قضاء عقوبة غير محددة الزمن. يقول المعلق بيتر فيليب: «إذا تتعامل «إسرائيل» هكذا مع أحد مواطنيها فكيف يا ترى تتعامل مع أعدائها الفلسطينيين»؟
إن تطوير «إسرائيل» لبرنامجها النووي يمثل مبررا قويا لدول أخرى في المنطقة من أجل تطوير سلاح مماثل. وكما هو الحال في معظم الأحيان لم يبذل الغرب أي جهد لدفعها إلى التخلي عن برنامجها، فلا عجب أن تواجه الولايات المتحدة وأوروبا الغربية ريبة متزايدة من قبل الدول العربية والإسلامية التي تتهمهما باتباع سياسة المعايير المزدوجة. المعايير المزدوجة الإسرائيلية لا تقتصر على مسألة البرنامج النووي فهناك موقف من نوع آخر، فمنذ سنوات كانت تبذل قصارى جهدها للإفراج عن الجاسوس الإسرائيلي جوناثان بولارد الذي كان يعمل في مخابرات البحرية الأميركية ويتجسس لصالحها. في الحقيقة فإن فعنونو ليس عالما نوويا كما زعمت «صنداي تايمز» قبل عشرين عاما، ولم يقدم معلومات خطيرة كما أشيع، لكن كل ما فعله هذا العامل الفني الصغير انه كشف عن سر مفاعل ديمونة من دون تفاصيل فنية أخرى، وأن المعلومات التي وافى بها الصحيفة لم تكن أكثر من غيض من فيض، ولا تمثل سوى قمة جبل جليد. لكن حين يهتم العالم والغرب خصوصا بضرورة تخلي «إسرائيل» عن ترسانتها النووية وإعلان منطقة الشرق الأوسط خالية من أسلحة الدمار الشامل بما فيها هذه الدولة، سيصبح هناك أمل بالسلام في المنطقة
العدد 598 - الأحد 25 أبريل 2004م الموافق 05 ربيع الاول 1425هـ