«كان تقدمي سؤالا وتلمسا، وما يتوصل الإنسان الى استنطاق نفسه إن لم يتمرن على ذلك، ولكل ذوقه، وهذا هو ذوقي، لا أراه خير الأذواق ولا أراه شرها. على انني لا أخجل به ولا أخفيه. هذا هو السبيل الذي انتهج فأين هو سبيلكم؟».
#(نيتشه)#
نشر المخرج السوري المعروف هيثم حقي مقالا بصحيفة «الحياة» في السادس من يناير/ كانون الثاني 2004 عن «الاصلاح والمعارضة الديمقراطية» اعتقد أنه يستحق القراءة عدة مرات لما احتواه من مضامين عميقة تتجاوز أبعادها سورية الشقيقة التي تعاني مثل غيرها من البلدان العربية من حال احتقان عامة، قد تنفجر في أية لحظة إن جاء التغير القادم «من الداخل أو الخارج» اذا ما أحسن توظيف الاستياء العام من قبل السلطة الاصلاحية أو المعارضة السياسية، بدل ان يتحول الى «نق» على الطريق السورية، ولا يعيره احد اهتماما.
يرى هيثم حقي ان المشكلة التي تعاني منها سورية فعلا، هي «مشكلة تحويل الاستياء الى معارضة سياسية سلمية ذات برامج اجتماعية ديمقراطية واضحة. ويجب ان يكون هذا هدف السلطة الاصلاحية مثلما هو هدف المعارضة السياسية».
ولكن كيف؟ هل بتوسيع المشاركة في السلطة كما يرى البعض؟ وهذا ما سماه حقي بـ «توسيع دائرة الاستياء» قائلا: فكم من وزير معارض جيء به، فقضى وقته في الوزارة في الـ «نق» عن الصلاحيات غير الموجودة وعن ان هناك فوقا لا يسمح بكذا ويعرقل كذا... وفوق، هي كلمة سورية بامتياز لا أحد يعرف ما المقصود منها، فالكل يشكوا ولا أحد يعرف من هو المسئول، بينما كل المؤشرات تشير الى أن (فوق) هناك رغبة حقيقية في الاصلاح، فالحل ليس بادخال المستاءين من المخالفين بالرأي ضمن نظام الـ «نق» العام، بل بتحويل المستاءين الى معارضين سياسيين من موقعهم، باعطائهم الفرصة لتكوين برامجها الاجتماعية الديمقراطية (الاقتصادية السياسية القانونية الثقافية كلها تدخل في هذا الاطار، فهدف كل برامج الحركات السياسية في العالم، الانسان وعلاقته بالمجتمع) التي ستجبر الحكومة والموالاة عموما على شحذ الهمم لتقديم برامج واضحة تدفع عجلة الاصلاح قدما. وحين تتحول كل قضية مهما كانت صغيرة الى قضية عامة تناقش لا في «الكواليس» بل امام المجتمع يصبح الاستياء برنامجا ومطلبا واضحا المعالم محدد التوجهات. أي ببساطة يتحول الى معارضة مطلوبة لصالح الوطن ككل لا لصالح أفراد، يقومون ببعض الانتقادات توصلهم الى دائرة المسئولين المستاءين.
ما أود الاشارة اليه من هذه «الاقتباسات» ليس نكثا لجروح بلداننا العربية بقدر ما هو توضيح رأي مطروح للنقاش بقوة هذه الايام امام المعارضة والموالاة للأنظمة معا، وخصوصا مع كثرة المبادرات العربية نحو الاصلاح «من الداخل» ومنها المصرية واليمنية والأردنية، وان جاءت متأخرة فهي أفضل من الا تأتي ابدا، كما يقول المثل الروسي الشهير.
من هنا، فالذين تمعنوا في قراءة النص الحرفي لأول تقرير عن التنمية الانسانية في الوطن العربي للعام 2002 الذي قام بانجازه فريق مستقل من الخبراء العرب، ونشره المكتب الاقليمي للدول العربية في برنامج الأمم المتحدة الانمائي بالاشتراك مع الصندوق العربي للانماء الاقتصادي والاجتماعي وقارنوه ببيان وزير الخارجية الاميركي كولن باول، ما اصطلح على تسميته «بالمبادرة الأميركية الشرق أوسطية للاصلاح»، هذه المبادرة التي صدرت متأخرة في الحادي عشر من ديسمبر/ كانون الأول 2002، سيجدون فواصل مشتركة بين تقرير التنمية البشرية والمبادرة الأميركية التي تتجه نحو الطريق ذاته، وتتجدد بقوة هذه الأيام بتصريحات أشبه ما تكون تهديدات لبعض الأنظمة العربية، بوضعها امام خيارات أحلاها مر اذا ما أرادت هذه الأنظمة البقاء على ما هي عليه وبالصيغة العتيقة ذاتها.
ثمة ردود فعل عنيفة عربية ظهرت بقوة ضد المبادرة الأميركية وتقرير التنمية البشرية آنذاك، قد تفهم دوافعها، خصوصا عند اولئك الذين يخشون التغيير تحت ذرائع متفاوته، بعضها وجيه والبعض الآخر يدعو إلى السخرية، حين تتجدد الممارسة التي تستخف بالعقول على اعتبار ان الديمقراطية فكر غربي مستورد، أو ان لمجتمعاتنا خصوصيتها، وهم على أتم الاستعداد لاستيراد كل شيء من الغرب الا الشيء الذي ينفع شعوبهم وتقدمها الاجتماعي، وكأنهم بذلك يلغون الذاكرة من المواطنين، تماما مثلما سأل احد الصحافيين مسئولا في أحد الدول العربية عن سبب تأخر خدمة الهاتف الخلوي في بلاده؟ فرد بلغة «ثورية»: حتى لا يستخدمه المواطنون في التخابر مع العدو الصهيوني !.
قد نتفهم الذريعة الوجيهة التي تساق برفض المبادرة الاميركية كون شعار: «المبادئ والديمقراطية وحقوق الانسان» الذي ترفعه الولايات المتحدة وتستخدمه وقت ما تشاء وضد من تشاء في اطار مصلحتها، واذا ما سلمنا بذلك سلفا نتيجة للتاريخ الطويل الأسود للإدارات الأميركية المتعاقبة في البيت الأبيض وحمايتها للأنظمة الدكتاتورية والقمعية، اضافة الى قمعها لحركات التحرر في العالم، والذي اعترفت به أخيرا فكان الاجدى لأنظمتنا ان تتلقف تقرير التنمية البشرية لاصلاح نفسها من الدخل، ولا تنتظر لا مبادرة أميركية ولا غربية لذلك.
فالأنظمة العربية - للأسف - تأخرت كثيرا في التقاط الرسائل الموجهة اليها، من شعوبها ومن الخارج ووقفت من دون حراك ان لم تقمع حركة التجديد والاصلاح لمواطنيها، حتى أصبحت أنظمة لا تتلاءم مع العصر الحديث، ولا تعرف لغته خصوصا بعد تحولات 11 سبتمبر/ ايلول على أميركا والعالم، فلا غرابة اذا ان تصعد الولايات المتحدة من لهجتها وهي الدولة الكبرى في العالم، حين تؤكد انها «ستدعم المصلحين من داخل أنظمة الحكم وخارجه» في اشارة إلى مناصرة المعارضين السياسيين للأنظمة الشرق أوسطية.
تقول الأمم المتحدة في تقرير التنمية الانسانية الشهير عن منطقتنا: «ان التنمية الانسانية في الدول العربية لا ترقى لمستوى غناها» وهي محقة في ذلك، لأن البلدان العربية لم تتطور بالسرعة التي تطورت بها مناطق أخرى، على رغم رياح التغيير التي هبت على العالم بأسره، ويعود ذلك (بحسب التقرير الدولي) بشكل رئيسي لافتقار المؤسسات الحكومية للشفافية والمساءلة، كذلك، نجد ان مشاركة المرأة في العمل والحياة السياسية والمهنية اقل مما هي عليه في بلدان العالم الأخرى.
كل المؤشرات تشير الى ضرورة وحتمية التغيير مع وجود أرضية داخلية وخارجية للمشي عليها صوب الديمقراطية والتحديث، اذ ان العالم اليوم لا يحتمل نظاما ينتقص من الحريات العامة، وينتهك حقوق الانسان أو حقوق المرأة السياسية، وزمن تغييب سجناء الضمير في غياهب السجون قد ولى، أو كاد، ولن يكون مقبولا وجود نظام لتفريخ الارهابيين ولتصدير العنف التكفيري لكل مكان بسبب غياب الديمقراطية. ومع ذلك هناك اشكالية عربية اقلها عند الشعوب العربية التي وصل استياؤها الى درجات متقدمة من الاحتقان، فثمة شك في المشروع الاميركي للاصلاح، وكذا بالنسبة الى المبادرات العربية (غير المعروفة ملامحها) وفي أي اتجاه تتجه، فالادارات الأميركية المتعاقبة تملك تاريخا طويلا من الدعم للدكتاتوريات وأنظمة القمع، حين كانت مصالحها معهم، والنظام العربي معروف بقهره الطويل لمواطنيه، وبه من المساوي ما يكفي لعدم الوثوق به، أو بجدية الاصلاحات التي يعتزم القيام بها، اذ سيظل المواطن العربي المغلوب على أمره حائرا بين «تغييرين» وكأنهما كذبة كبرى، ما لم يعيد النظر في المتناقضات وصولا إلى انتهاج سياسة معارضة سلمية من أجل ان يختار الناس نوع أنظمتهم الصالحة بأنفسهم عن طريق صناديق الاقتراع وتجعلهم مسئولين عن خياراتهم لا ان يدافعوا عن أنظمة كانت اصلا تتفنن في قمعهم لفترات طويلة، فسيكون هناك رضا حتى لو جاء التغيير من الخارج كما في التجربة العراقية.
هذا الانقسام في التفكير سيأخذ مداه حتى يقسم التقسيم، والتغييرات السياسية لا تأتي بتمنيات السياسيين ورغباتهم، وانما بنضج الظروف الذاتية والموضوعية... وقالت الجدلية في ذلك: «التراكمات الكمية تؤدي الى التحولات النوعية»، وأعتقد ان الأمور وصلت الى قاب قوسين أو أدنى... فلننتظر لنرى (...)
العدد 596 - الجمعة 23 أبريل 2004م الموافق 03 ربيع الاول 1425هـ