خصّص السيد عبداللّه الغريفي كلمته مساء الخميس 22 ابريل/ نيسان في جامع الإمام الصادق في القفول لتداعيات الموقف السياسي تجاه العريضة الشعبية التي دشنتها الجمعيات السياسية الأربع التي قاطعت الانتخابات النيابية. وجاء في كلمته ما يأتي:
منذ أن عقدت الجمعيات السياسية مؤتمرها الدستوري واتخذت قرارا بإقامة ندوة جماهيرية وتدشين عريضة شعبية في شأن المسألة الدستورية... منذ ذلك الوقت بدأت مؤشرات التوتر الرسمي تجاه هذا القرار. وفي المقابل أخذت الجمعيات السياسية تمارس دور التحشيد لتلك الندوة والعريضة، وقبل أسابيع ارتفعت وتيرة المواجهة، فاتخذ الخطاب الرسمي منحى جديدا تمثل في التهديد بغلق الجمعيات بذريعة المخالفة القانونية، وبدا واضحا الموقف المتشدد من قبل السلطة.
ومن جانبها كانت الجمعيات السياسية يتسم خطابها بالإصرار والتحشيد في اتجاه الندوة والعريضة الشعبية... وفي ظل هذا التجاذب الحاد ظهر في الأفق ما ينذر بخطر حقيقي يهدد بعودة الأوضاع إلى أجواء العنف والمواجهة، وهنا تداعت شخصيات ورموز وقوى وجمعيات للعمل من أجل تخفيف هذا التوتر وحماية الأوضاع من أن تنزلق في اتجاه المواجهة والصِدام... وقد تسألون: وماذا كان دور العلماء في مواجهة هذه الأزمة؟
وللتعرف على دور العلماء نشير إلى النقاط الآتية:
1- العلماء يعتقدون بحق الشعب في أن يعبّر عن رأيه في الشأن السياسي بالأساليب السلميّة المكفولة دستوريا وقانونيا.
2- كما يعتقد العلماء بحق الجمعيات السياسية في أن تمارس دورها في تحريك العريضة الشعبية استنادا إلى المادة القانونية الصريحة خلافا للفهم الرسمي في تفسير هذه المادة.
3- وفق المعطيات التي أنتجها الخلاف المتأزم بين السلطة والمعارضة ترشّح لدى العلماء وجود مخاطر حقيقية بدت مؤشراتها واضحة.
قد يقال: وكيف استطعتم أن تكتشفوا جدية هذه المخاطر، ولماذا لا تكون لعبة تمارسها السلطة لإجهاض مشروع العريضة... فهل كلّما لوّحت الحكومة بالعصا يجب أن ننهزم؟
هذا الأمر كان واردا، ولذلك طرحنا السؤال نفسه على أصحاب الشأن السياسي ومن ضمنهم القائمون على العريضة أنفسهم، وطلبنا منهم التأكد من جدية التهديدات فكان هناك شبه إجماع بوجود احتمال عقلائي يعتدّ به بأنّ المخاطر حقيقية وليست مجرد مخاوف عادية.
هكذا قالت القراءة السياسية المتأنية الدقيقة المعتمدة على حيثيات موضوعية شارك في تشخيصها أعضاء الجمعيات السياسية وعدد غير قليل من العقول السياسية المتوازنة في هذا البلد.
4- ووفق هذه الاعتبارات ووضوح الكثير من الحيثيات، ومن خلال لقاءات ومداولات كان المطروح على مستوى التصوّر مجموعة خيارات.
وهو الخيار الأساس، أن يبقى الموقف كما قررت الجمعيات السياسية في مؤتمرهم الدستوري وأن تتحرك العريضة الشعبية برعاية هذه الجمعيات.
وهذا الخيار على رغم شرعيته وقانونيته فإنّه - وفق قناعة الأغلبية - سوف يؤدي إلى مخاطر كبيرة محتملة جدا كما ذكرنا آنفا... ولهذا صار من الضروري التفكير في خيارات أخرى.
إلغاء مشروع العريضة نهائيّا، وهذا الخيار يشكّل صدمة عنيفة لجماهير الأمة، وله مردوداته الخطيرة، ونتائجه السيئة.
التجميد وليس الإلغاء، تحسبا للظروف الموضوعية المناسبة... وهذا الخيار وإن كان لا يحمل نتائج الخيار السابق، إلاّ أنه يشكّل خيبة أمل للجماهير، وله مردوداته السلبية.
وربما يكون هذا الخيار مقبولا لو انعدمت كلّ الخيارات.
أن تبقى العريضة عريضة الجمعيات الأربع فقط وفي دائرة أعضائها الفعليين... هذا الخيار لن يعطي للعريضة قوتها السياسية المطلوبة، ودلالاتها الشعبية الكبيرة.
أن تكون العريضة عريضة الجمعيات مع توسعة قاعدة العضوية، وبالتالي توسعة شعبية العريضة... وعلى رغم أنّ هذا الخيار لا يعطي للعريضة قوة شعبية كما يعطيها الخيار الأول، فإنّه خيار يصادر مبرر السلطة في ضرب الجمعيات، ويفوّت الفرصة في جرِّ الأوضاع إلى دائرة التأزّم الأمني.
وثمة خياران آخران طُرحا للدراسة والمناقشة، أحد هذين الخيارين أن تؤجل العريضة إلى أجل محدود، على أن يقوم العلماء بدور الوساطة والحوار مع السلطة في محاولة لايجاد مخرج من هذا المأزق.
والخيار الآخر أن يتبنّى العلماء العريضة، على أن تنضم إليها عريضة باسم الجمعيات أو باسم الرموز السياسيّة.
وعلى كلِّ حال فإنّ الخيار الذي وصلت إليه قناعة الجمعيات الأربع هو الخيار الخامس والعلماء يقدّرون لهذا القرار عقلانيته وحكمته، ودوره في سحب فتيل الأزمة وفي حماية التجربة السياسية، كما يتمنى العلماء لهذا الخيار أن يحقق أهدافه المنشودة.
5- قد يطرح سؤال كبير... لماذا بقي موقف العلماء مرهونا لقرار الجمعيات، أما كان بالإمكان أن يبادروا إلى اعلان موقفهم المستقل... وهذا أفضل من أن يأتي موقفهم مباركا ومؤيدا فقط، ولماذا تركوا أجواء التحشيد تتحرك إذا كانت لديهم قناعات مسبقة ولم يتدخلوا إلاّ في وقت متأخر؟
هذه أسئلة وجيهة...
أمّا ان العلماء تركوا أجواء التحشيد تتحرك من دون أن يتدخلوا إلاّ في وقت متأخر... فإنني أؤكد لكم أنَّ العلماء منذ أن بدأت مؤشرات التصعيد ومؤشرات المخاطر، طالبوا باعادة قراءة الموقف، وطالبوا بتخفيف التحشيد انتظارا لنتائج المراجعة السياسية، وطالبوا بالتأكد من جدية المخاطر...
وأمّا لماذا لم يبادر العلماء إلى اعلان موقفهم مستقلا عن قرار الجمعيات؟
فالعلماء كانوا يرون أنّ الجمعيات السياسية الأربع هي الطرف الأساس في هذه الأزمة... وهي صاحبة القرار في تحريك العريضة الشعبية، فمن الطبيعي أن تكون هي المسئولة عن اتخاذ القرار في هذه الأزمة، ولا شك أنّ قرار الجمعيات لو جاء على خلاف قناعة العلماء، ووجد العلماء أنّ في هذا القرار ما يهدّد مصلحة هذا البلد أو مصلحة الشعب، بدرجة لا يسوّغ الشرع السكوت عليها، فسوف لن يتوقف العلماء عن اعلان موقفهم الذي تفرضه قناعتهم الشرعيّة.
أما وقد جاء قرار الجمعيات مقبولا، فدور العلماء هنا التأييد والمساندة فقط.
6- إنّ قرار العلماء في أيّ قضية من قضايا الساحة مرهون بعدة اعتبارات، أهمها:
الاعتبار الأول: ضرورة مراجعة كلّ الحيثيات الموضوعية، كون الخطأ في هذه الحيثيات ينتج خطأ فادحا في اتخاذ القرار.
الاعتبار الثاني: دراسة الأرباح والخسائر فيما هي مصلحة الدين والأمة.
التضحيات تارة تنتج أرباحا أكبر، وهنا تكون التضحيات مشروعة، وقد تكون واجبة، وتارة تكون الخسائر أكبر... وثالثة تتساوى الأرباح والخسائر.
في هاتين الحالين لا يوجد أيّ مبرر عقلي أو شرعي في اعطاء التضحيات.
ومن هو المؤهل لاكتشاف الأرباح والخسائر؟
كلّ الذين يملكون القدرة على قراءة الواقع الروحي والثقافي والاجتماعي والسياسي، ويملكون القدرة على تحديد المحتملات وتحديد درجة الاحتمالات ويملكون المعايير الصحيحة في القراءة والمحاسبة.
وهذا موضوع في حاجة إلى معالجة مفصّلة ليس هنا محلّها.
الاعتبار الثالث: اعتماد الرؤية الفقهيّة الدقيقة... وعلى رغم قيمة الرؤية الموضوعية والسياسية، فإن القرار في حاجة إلى فهم فقهي أصيل قادر على انتاج الموقف المنسجم مع الضوابط الشرعيّة.
قد يكون الفهم السياسي صحيحا، وقد يكون الفهم الموضوعي صحيحا إلاّ أنّ غياب الرؤية الفقهية يؤدي إلى منزلقات خطيرة... وحتى لو جاء القرار السياسي صحيحا مئة في المئة، فالإنسان المسلم في تحديد موقفه الشرعي في حاجة إلى رؤية فقهية.
الاعتبار الرابع: امتلاك التقوى والورع: وهنا تتشكّل الضمانة في حماية القرار من أن يخضع للهوى ومصالح الذات، ومن أن يضعف أمام الإغراءات والمساومات، ومن أن ينهزم أمام الضغوطات والتحديات.
أيّها الإنسان المؤمن...
وأنت تستجيب لهذا الخطاب أو ذاك... وأنت تتحرك وراء هذه القيادة أو تلك... اعلم أنّ دليلك في هذه الدنيا هو دليلك في الآخرة، وأنّ قائدك هنا في الدنيا هو قائدك هناك في الآخرة... وإنَّ صراطك هنا هو صراطك هناك
إقرأ أيضا لـ "السيد عبدالله الغريفي"العدد 596 - الجمعة 23 أبريل 2004م الموافق 03 ربيع الاول 1425هـ