أفرجت «إسرائيل» أمس الأول الأربعاء 21 أبريل/نيسان 2004 عن أسير الضمير النووي الإسرائيلي موردخاي فعنونو بعد أن قضى 18 عاما من الحبس (11 عاما منها في الحبس الإنفرادي) بعد أن أذهل العالم بنشره عن ترسانتها النووية؛ ليكتب اسمه في تاريخ العالم. الاسير الذي يقول عنه أصدقاؤه إنه ضحية رغبة «إسرائيل» في نشر قوة الردع النووية، ولو أرادت اعتقاله لفعلت ذلك في العام 1980 أو 1981 حين كان ناشطا معروفا في قوى السلام اليسارية، وخصوصا في الحزب الشيوعي، الحزب الوحيد الذي عمل على الساحة في تلك الفترة بقوى عربية يهودية. وكان فعنونو مؤيدا لحركة «كاخ» العنصرية، وانتقل إلى التطرف اليساري اذ مقت الديانة اليهودية. وقال في احدى رسائله التي كشف عنها في المحكمة المركزية في بئر السبع: «أريد أن أصل إلى مرحلة يتم فيها تفكيك السلاح النووي الإسرائيلي وهدم الفرن الذري في ديمونة، كما هدمت (إسرائيل) الفرن الذري في العراق، هذا هو الطريق إلى السلام».
نداء أو حلم فعنونو هذا أخفقت أكثر من 15 دولة عربية في تمريره، اذ فشلت هذه الدول مجتمعة في تمرير قرار يُخضع برنامج «إسرائيل» النووي للتفتيش الدولي في فيينا منتصف سبتمبر/أيلول 2003.
ومفاعل ديمونة أهم منشأة نووية إسرائيلية دخل مرحلة الخطر الاستراتيجي، بسبب انتهاء عمره الافتراضي والذي يظهر واضحا للعيان من خلال تصدعه وتحوله إلى مصدر محتمل لكارثة إنسانية تحصد أرواح مئات الآلاف من الضحايا إن لم يكن الملايين، من بينهم الإسرائيليون أنفسهم.
وبحسب التقارير العلمية المنشورة في مجلة «جينز إنتلجنس ريفيو» - المتخصصة في المسائل الدفاعية الصادرة في لندن العام 1999 والتي استندت إلى صور التقطتها الأقمار الصناعية التجارية الفرنسية والروسية - فإن المفاعل يعاني من أضرار جسيمة بسبب الإشعاع النيتروني، ويحدث هذا الإشعاع أضرارا بمبنى المفاعل، ما يجعله هشّا وقابلا للتصدع، إضافة إلى أن المفاعل أصبح قديما اذ ان عمره 40 عاما، وعلى رغم استبدال بعض أجزائه فإن هناك خلافا جديّا على ما إذا كان من الأفضل وقف العمل فيه. ويرى الخبراء أن إصابة الكثير من سكان المناطق المحيطة بالمفاعل بالأمراض السرطانية والعاملين فيه أيضا كان بسبب تسرّب بعض الإشعاعات. والعشرات من عمال المفاعل ماتوا تأثرا بالسرطان في وقتٍ ترفض فيه إدارة المفاعل والحكومة مجرد الربط بين إصابتهم وموتهم وبين الإشعاعات.
وتنظر المحاكم الإسرائيلية الآن في أكثر من 45 دعوى قضائية تقدمت بها عائلات المهندسين والخبراء والفنيين العاملين في المفاعل النووي في ديمونة بصحراء النقب، بسبب تفشي الإصابة بالسرطان خلال السنوات الأخيرة، مطالبين بسرعة صرف تعويضات تقدر بنحو 50 مليون دولار.
البداية بدعمٍ فرنسي
بدأ تشغيل مفاعل ديمونة في العام 1963 بدعم من فرنسا التي زودت «إسرائيل» بالآلات والمعدات اللازمة لذلك بما يكفي لصنع قنبلة نووية واحدة. وتسعى «إسرائيل» لزيادة الكفاءة الإنتاجية للمفاعل. وكان فعنونو التقني الإسرائيلي الذي عمل لمدة 10 سنوات في مركز الأبحاث النووية قد أكد أن «إسرائيل» أنتجت حوالي 100 قنبلة نووية، ويقضي الآن مدة عقوبة 18 عاما بتهمة إفشائه أسرارا عسكرية، انتهت الأربعاء الماضي. ويقول فعنونو: «يعلم الجميع أنني لم أسجن لأني سرقت أو قتلت، أنا هنا بسبب ما أؤمن به، وإذا أخذ في الاعتبار مبادئي والمعلومات التي حصلت عليها فسيكون حتما عليّ أن أفعل ما فعلت، ولقد كانت حريتي ومجازفتي بحياتي ثمنا دفعته لأكشف الستار عن مخاطر الأسلحة النووية المحيطة في المنطقة». واستند خبراء الطاقة النووية الأجانب إلى معلوماته لتأكيد ان المفاعل يصنع خمس قنابل نووية سنويا. وتحيط به أشجار عالية ونباتات كثيفة لإبعاده عن الأنظار، وأقيمت حوله أسلاك كهربائية وطرق لدوريات الحراسة وتمهد التراكتورات التربة الوحلية يوميا لتسهيل اكتشاف آثار الزوار غير المرغوب بهم، ونصبت «إسرائيل» بطاريات مضادات جوية حول المكان لإسقاط كل جسم طائر يظهر على الرادار. وتسيطر غرفة مراقبة المفاعل على جميع فعاليات الطوابق الخمسة الواقعة تحت الأرض، وتسمى هذه الغرفة «شرفة غولدا»، لأن غولدا مائير خصصت الكثير من وقت فراغها في مطلع السبعينات للتجوال داخله والإشراف على عمله.
«مَنْ أنت موردخاي فعنونو؟»
هذا هو الفيلم الوثائقي الذي سيتم عرضه في القناة (8) بـ «إسرائيل» للمخرج المقدسي نسيم موسيك، وهو شرقي الأصل عانى ما عاناه فعنونو من تمييز لليهود الشرقيين أو ما أسماهم فعنونو نفسه «العرب اليهود». سرد رواية فعنونو عبارة عن دراما إنسانية، يتصل اسمه في القاموس الإسرائيلي بذلك الغول أو المارد الذي ضرب الدولة اليهودية في الصميم بخنجره المسموم، وخيانته العظمى لأهم مرافقها العسكرية، يعتبره بعضهم «قنبلة موقوتة». رئيس الموساد السابق شبتاي شابيطن قال انهم «فكروا باغتياله، ولكن اليهودي لا يقتل يهوديا، ومن هنا فكرنا في اختطافه ليسجن بقية حياته وان الخوف من فعنونو تحوّل إلى «برانويا (ارهاب) وطني»، كما قال محامي الدفاع عنه افيغدور فلدمان.
أما في نظر العالم، فهو المحارب الشجاع الباسل الذي تحدى بإرادته كل أجهزة الأمن الإسرائيلية، وبرغبته بالعيش في سلام في محيط عربي واسع، رغبة منه في وقف التسلح النووي الذي يشكل كارثة ليس على العرب فحسب، بل وعلى أبناء شعبه في البداية، لذلك صنع له الآلاف في العالم تمثال البطل الاسطوري وبنوا له مواقع على الإنترنت، وتظاهروا من أجل حريته، لأنه صرخ ضد القنابل النووية، الخطر القادم على البشرية جمعاء. وقد نال فعنونو - الذي كان يدرس للقب الثاني في الفلسفة في جامعة «بن غوريون» - الدكتوراة الفخرية من جامعات عدة في أنحاء العالم، وسجل اسمه عدة مرات لنيل جائزة نوبل للسلام كونه «أثبت إخلاصه للمجتمع العالمي».
الفيلم يروي قصته منذ هجرته من المغرب حتى إطلاق سراحه من السجن. الدراما الإنسانية التي ترافق سرد القصة عبارة عن قصة «بوليسية» هائلة، اذ كُلف الموساد بالقيام بمهمة تساوي مهمة اختطاف ايخمان بعد 26 عاما؛ لإثبات أن من يخون «إسرائيل» - حتى ولو كان يهوديا - فمصيره لن يقل عن مصير النازي ايخمان. وخطورة هذا «الجاسوس» اسرائيليا انه تبرع بمحض إرادته بكشف أهم أسرارها العسكرية، (مفاعل ديمونة) الذي كانت كل المعلومات المتوافرة عنه قبل أن يكشفها فعنونو على صفحات كبرى الصحف البريطانية وبالصور أيضا مجرد تكهنات. من هو فعنونو؟
ولد فعنونو في مراكش بالمغرب العام 1953 لعائلة من 12 فردا. وكان ابنا مدللا لأبيه شلومو الذي كان يحثه على الدراسة.
عندما بلغ السابعة في العام 1960 طلبت أمه من أبيه المزارع البسيط أن يرسله إلى المدرسة، فردّ عليها بحدة: «أية مدارس؟ نحن يهود والمغرب لن تكون بلدنا أبدا ولن اسمح لابنائي بالعيش فيها»، وطلب منها أن تستعد لرحلتهم جميعا إلى أرض الميعاد (فلسطين).
بعد أسابيع قليلة وصلوا «إسرائيل»، ولكن تحت مسمى «السفارديم» (يهود الشرق)، وكانت الأم ترغب في السكن بجوار والدتها في حيفا، إلا أن الوكالة اليهودية اختارت لهم العيش في حارة فقيرة في بئر السبع، ومات الحلم عندما اضطر الأب أن يأخذهم هناك، ليعيش شهورا طويلة معزولا يتلقى المساعدات الحكومية، حتى قرّر النزول إلى السوق وافتراش فرشة رص عليها أكواما من الكتب الدينية القديمة وبدأ عملا جديدا عليه.
بعد سنوات وجد فعنونو نفسه مطالبا بالوقوف إلى جوار والده فتوقف عن استكمال دراسته، واكتشف والده انه لا يذهب إلى المدرسة، فسأله: وماذا تنوي أن تفعل؟ فأجابه «سألتحق بالجيش، وأدرس في جامعة تل أبيب» كان ذلك في العام 1971. ظل موردخاي في الجيش على رتبته التي وصلت إلى عريف بسلاح المهندسين بعد أن رفضه سلاح الجو، والتحق بالجامعة ودرس في قسم الفيزياء، وظل يعمل ويدرس إلى أن بلغ الثالثة والعشرين. وقع بصره على إعلان صحافي يطلب شبابا للالتحاق بدورة تدريبية للعمل في مصنع لم تحدد هويته بعد. في الصباح كان على باب المصنع الصغير وعلى بوابته كتب «نسيج ديمونة»، في منطقة بعيدة ومريبة، واكتشف لحظة وصوله انه مفاعل ديمونة الذري، وكان ذلك في نهاية العام 1976.
صاحبه الضابط هناك إلى غرفة تضم لجنة من الضباط، وهناك أجاب على الأسئلة التي اثبت بها ولاءه لدولة «إسرائيل» ولليهود، بعدها قام رئيس اللجنة بكتابة بعض العبارات ومرر الأوراق إلى زملائه، وفي النهاية تم قبوله كفني بالمفاعل، وكان ذلك في نوفمبر/ تشرين الاول العام 1976، وفي اليوم التالي وقع أوراقا تفيد بحصوله على منحة دراسية تدريبية مكثفة في الفيزياء والكيمياء والرياضيات والإنجليزية ضمن بعثة من 39 شخصا اختيروا من 45 متقدما، وانتهت البعثة في نوفمبر 1977 وأصبح رسميا موظفا بالمفاعل الذي يقع في منطقة تحت الأرض. وقبل أن يجتاز بوابة الأمن المؤدية إلى قلب المفاعل دخل غرفة كبيرة وقدم له شخص لا يعرفه ورقة تعهد تنص على عقوبة السجن لمدة 15 سنة لمن يفشي سرا لأي إنسان مهما كان عن طبيعة عمله هناك.
التحول نحو اليسار
واصل فعنونو دروس الفيزياء الذرية والكيمياء وخصائص البلوتونيوم واليورانيوم، ثم خضع لفحص طبي خلال الأسابيع الأولى وأعطي وزملاؤه بطاقات أمنية تخوله الدخول والخروج بحرية من وإلى المفاعل في أي وقت، ليتعرف مع زملائه خلال عشرة أسابيع على مجالات العمل كافة والأجهزة الدقيقة قبل بدء العمل فعليا. وأصبح موظفا رسميا بالمفاعل في 7 أغسطس/آب 1977 اذ عين رئيس وردية ليلية يبدأ عملها بين الساعة 11 مساء وحتى 8 صباحا. وظل فعنونو يذهب يوميا إلى محطة يترك فيها سيارته «الآودي» في مكان ناءٍ ويستقل باصا خاصا يقله هو وزملاءه إلى مقر المفاعل.
وكان فعنونو قد بدأ يكتشف نفسه، فسأل والده مرة والأسرة مجتمعة على مائدة الطعام: أبي لماذا نحن يهود؟ فأجابه مندهشا: «لأنه دين آبائنا وأجدادنا»، فأعلن فعنونو أنه قرر أن يختار دينه بنفسه، ثم وضع الملعقة دون أن يتفوه بكلمة وخرج من بيت أبيه ولم يعد ثانية وكان ذلك العام 1980.
ومرّ فعنونو بتجربة جديدة، فأصبح يشعر باحتقار شديد للديانة اليهودية واصبح علمانيا لا دين له، في الوقت الذي لا يعرف شيئا عن الديانات الأخرى، واستمر كذلك حتى العام 1982 عندما سمع وقرأ وشاهد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، فازدادت نقمته أكثر على «إسرائيل» بشكل خاص، وشهدت جامعة «بن غوروين» التي يدرس بها مظاهرات علنية منه لا تتفق وطبيعة عمله. بعدها بدأ يصادق الطلبة العرب، وكان يقول عن نفسه «أنا عربي»، وأخيرا قرر أن ينضم الى الحزب الشيوعي الإسرائيلي وكان ذلك تحولا كبيرا في حياته، من يميني متطرف قريب إلى «كاخ» إلى يساري يعمل بصراحة ضد اليهود في اللجنة الطلابية التي كان يرأسها وزير الخارجية الحالي سيلفان شالوم الذي كان رئيسا لحزب «متسادا» اليميني المتطرف في الجامعة حينذاك.
كان جهاز الأمن (الشاباك) يسجل كل تطورات الجامعة وما يصاحبها من تغييرات في شخصية الفني بالفرن الذري (فعنونو)، وعندما وضعت التقارير أمام مديره تم إبلاغ الشاباك بهذه التطورات «الخطيرة» في شخصية فعنونو، فاستدعي فعنونو إلى مكتب رئيس الفرن الذي هدده بالفصل إذا لم يسكت، فلم يهتم بما قاله المسئول واستمر في عمله و«ثرثرته ومشاغباته» ولذلك قررت الإدارة فصله في شهر نوفمبر العام 1985، وعوض بنسبة 150 في المئة لارضائه في تلك الفترة، وأدخل فعنونو كاميرا تصوير وبعد أن نجح أدخل فيلمين وقام بتصوير منشآت المفاعل الأكثر سرية في العالم.
السفر إلى تايلند وإستراليا
في تلك الفترة نشر فعنونو إعلانا في الصحف عن رغبته في بيع سيارته وشقته، وباعهما بعد أيام وقرر السفر من هذه الدولة الفظيعة ليحط الرحال في تايلندا، وفي الطريق توقف في موسكو وهو يحمل الفيلمين في حقيبته. وحسبما يدعي وكيل سابق في الموساد فإن فعنونو حاول بيع الفيلمين والمعلومات الثمينة جدا التي كانت بحوزته في موسكو، ولكنهم تنازلوا عن خدماته!
وتجول شهورا في الشرق الأقصى (النيبال والهند)، وبعد أن نفدت نقوده قرر السفر إلى استراليا، وفي العاصمة سيدني عمل سائقا لسيارة أجرة ينقل المدمنين على المخدرات والقوادين ما ألزمه بالشعور بالضيق والضجر، فوصل إلى كنيسة في ذلك الربع الماجن، وطلب من القس ستيفن غيري أن يخبره كيف يصبح مسيحيا، فأوصله إلى قادة الكنيسة وأعلن مسيحيته بعد وقت قصير في كنيسة «سانت جون»، وسمي «جون موردي». ولم يكن تنصّره من منطلق الإيمان بالمسيحية، بل لأنه رأى فيها رافعة علم السلام العالمي الحقيقي الذي يؤمن به كما كتب في رسالة من السجن في عسقلان.
ذات يوم تعرف إلى شخص ادعى أنه صحافي من كولومبيا باسم «أوسكار غيريرو»، وبدآ يتحاوران أثناء عملهما في دهن الجدار الخارجي للكنيسة، فقال له: «هل تعلم أني من الممكن أن أجعلك اشهر صحافي في العالم؟».
لقاء الصحافي غيريرو
ضحك الصحافي بطريقة توحي بعدم الجد، فأعاد فعنونو تأكيد كلامه، ثم قال «لدي شريطان مصوران عن مفاعل ديمونة من الداخل، لقد كنت أعمل فنيا بالمفاعل النووي الإسرائيلي لتسع سنوات قبل فصلي، والتقطت هذه الصور أثناء النوبات الليلية»، فقال له الصحافي غيريرو: «إذا كان كلامك صحيحا فمن الممكن أن نبيع هذه الصور ونصبح من الأثرياء»، فرد عليه فعنونو: «صدقني إذا قلت لك ان ذلك لا يهمني، بل يهمني أن يعرف العالم كله أي خطر تشكله (إسرائيل) على العالم وعلى الشرق الأوسط تحديدا، وهم يخدعون العالم كله بالحديث عن كونهم مضطهدين وان العرب يريدون الفتك بهم، بينما لديهم ما يزيد على مئة قنبلة نووية ومفاعل ينتج كل أنواع القنابل الحرارية والهيدروجينية والنيوترونية، وهذا المفاعل به 2700 عامل وكنت أنا ضمن 150 عاملا فقط الذين كان مسموحا لهم بدخول كل أقسام هذا المجمع النووي».
بدأ الرجلان الاتصال بكل صحف العالم، إلا أن أحدا لم يصدق كلامه، وأجابه أحد محرري صحيفة أميركية مستنكرا: «هل من المعقول أن تدخل مفاعلا نوويا ومعك كاميرا وتصور وتخرج دون أن يكتشفك احد؟ إنني لا اصدق.. إما انك عميل أو مجنون».
لم ييأس غيرارو وقرر أن يتصل بمواطن استرالي شهير جدا، بل هو اشهر رجل في عالم الصحافة: ماغنيت روبرت ميردوخ، ملك الصحافة بلا منازع، ومالك الـ «صنداي تايمز» البريطانية. وفعلا اتصل غيرارو بميردوخ الذي قرر أن يمضي معهما للنهاية وطلب الصحيفة في بريطانيا وأمرها بإرسال المسئول عن التحقيقات الصحافية إلى سيدني لاستطلاع الأمر، ووصلها الصحافي البريطاني بيتر هونام وكان فعنونو وغيرارو وهونام يجلسون معا اذ تأكد الأخير من جدية الأمر. في نهاية الجلسة قال: «ليس أمامك إلا أن تأتي معي إلى لندن لننشر هذه التفاصيل، وستحصل على 75 ألف دولار مقابل نشر المعلومات والصور»، وهو المبلغ الذي لم يتلق فعنونو منه سنتا واحد حتى اليوم. ووافق فعنونو وصديقه الكولومبي، فسافر الثلاثة إلى لندن وتأجرت «صنداي تايمز» الخبير النووي البروفيسور فرانك برانبي للتأكد من الأمر وعدم الوقوع في خديعة صحافية أخرى، بعد أن سقطت في فخ كذبة العقد حين نشرت يوميات مزيفة للرايخ الالماني أدولف هتلر. برانبي نفسه قال لاحقا انه اعتقد أن فعنونو مبعوث من الموساد، الذي أراد بهذه الطريقة تقوية الردع الإسرائيلي عالميا. وشعر غيريرو أن رجال «التايمز» يخدعونه فتوجه إلى صاحب الـ «صنداي ميرور»، اليهودي روبرت ماكسويل (الذي لقي مصرعه فيما بعد في ظروف غامضة)، ليبيعه الصورتين اللتين أعطاهما إياه فعنونو ليشعر براحة أكبر بعد أن خاف من خداعه. وتخرج «الميرور» بعنوان كبير تحت اسم «الخدعة»، وذلك ليفوت الفرصة على منافسيه في «التايمز». في المقابل، علمت المخابرات الاسترالية بكل ما دار في اللقاء الثلاثي، وفي اليوم الذي غادر فيه فعنونو سيدني أبلغت الموساد بالقصة كاملة، وانه الآن في طريقه إلى لندن. كما أبلغت المخابرات البريطانية بوصول فعنونو إلى أراضيها وأصبحت الآن القصة على كل لسان. واتصل هانوم بالسفارة الإسرائيلية ليتأكد من معلومة أخرى عن عمل فعنونو في المفاعل، وجاء التأكيد من السفارة، ما أعطاه ضوءا أخضر بالنشر في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول 1986 تحت عنوان «الكشف عن أسرار الترسانة النووية الإسرائيلية»، وضم الموضوع معلومات لم يكن العالم كله يعرفها بهذه الدقة والوضوح عن القدرة النووية لـ «إسرائيل». عرضت الصحيفة الموضوع على خبراء نوويين للتأكد من دقة المعلومات الخطيرة، فدهشوا من الادلة الأكيدة التي قدمها فعنونو. والتي أكدت ان «إسرائيل» أصبحت القوة النووية السادسة في العالم، بينما كان العالم يشك في امتلاكها هذه القنبلة.
وأكد التقرير الذي هز العالم ان مفاعل ديمونة انتج حتى العام 1986 ما بين 100 و200 سلاح نووي. وأخطر ما جاء في المعلومات استخلاص البلوتونيوم لفترة طويلة وبشكل سري في مكان مجهول تحت الارض بعيدا عن أية رقابة، حتى ولو كانت الاقمار الصناعية المتقدمة التي تستخدمها الولايات المتحدة في التجسس على سكان الارض.
بيريز يأمر باختطاف فعنونو
اتصل فعنونو برئيس تحرير الـ «صنداي تايمز» الذي اكد عليه ألا يظهر في الاماكن العامة ويتخذ حذره، فلابد من إرسال «اسرائيل» فريقا من الموساد للبحث عنه. وكان رئيس الحكومة حينذاك شمعون بيريز، على وشك تسليم السلطة الى اسحق شامير، عندما وضع سكرتيره الخاص تقريرا أمامه يلخص ما عمله فعنونو وما نشرته «صنداي تايمز»، واختتم السكرتير تقريره بأن كل أسرار مفاعل ديمونة والسلاح النووي الاسرائيلي اصبحت معروفة للعالم كله.
أمسك بيريز سماعة الهاتف وادار رقم وزير خارجيته شامير وكذلك وزير الأمن اسحق رابين، وجلس الثلاثة في مكتب رئيس الوزراء وطلب من مدير مكتبه عدم ازعاجهم بأي شيء مهما كان. وتساءل شامير في لهفة: ما الذي جرى؟ فأجابه بيريز «فضيحة يا سيد شامير، بل قل إنها فضيحة نووية» وانزعج رابين واستعجل بيريز: «ماذا جرى؟ هل حدث شيء لمفاعل ديمونة؟». فأجابه بيريز: «نعم... استطاع فني من العاملين فيه الهروب الى الخارج وتحديدا الى استراليا والتقى شخصا عرض عليه إذاعة أسرار المفاعل كلها، ومن ثم أخذه وذهب الى بريطانيا بصحبة صحافي بريطاني اذ أدلى بكل ما لديه من معلومات وأصبحت فضيحة على مستوى العالم كله. ولابد من احضاره بأي ثمن، وتلك مهمة الموساد بعد أن فشل الشاباك في معرفة دوافعه وميوله».
ورد رابين: «اذا، ما الذي تنتظره؟ لابد ان يعلم كل اسرائيلي ان من يخون أمن (إسرائيل) لا مكان له بيننا» وتردد بيريز لعدم المس بالعلاقات الطيبة مع بريطانيا، فقال له شامير: «اتصل بمارغريت ثاتشر واعلمها بالموضوع وأخبرها ان المطلوب فقط مساعدتها والمخابرات البريطانية، وان بقية المهمة ستكون علينا ولا تلمح لها عن فكرة خطف فعنونو».
عقب الاجتماع جمع بيريز رؤساء تحرير الصحف الاسرائيلية على وجه السرعة، ودخل عليهم وقال بصوت يغلب عليه الأسى والغيظ دون ان يجلس على مقعده: «أرجو منكم ألا تعطوا لهروب فعنونو ونشره اسرار ديمونة الاهمية الزائدة، وان توقفوا النشر عن هذا الموضوع ما أمكن». ثم أصدر أوامره للموساد لاحضار فعنونو من بريطانيا ولكنه لم ينس أن يحذر رئيس جهاز الموساد من حساسية الاحتكاك بالحكومة البريطانية أو سيادتها وقوانينها وبالتالي كانت مهمة الموساد صعبة، وبدأ الفريق الذي وصل بريطانيا - بناء على تعليمات - مراقبة الـ «صنداي تايمز» ليل نهار بالكاميرات. في اليوم التالي نشرت الصحف البريطانية خبرا في صدر صفحاتها يقول ان بيريز يطلب من صحافييه عدم الاهتمام بما نشرته الصنداي تايمز، وهذا يعني ان كل ما قاله فعنونو صحيح، وعلقت بأن السفارة الاسرائيلية كذبت عندما قالت ان ما نشرته الصنداي تايمز عن قصة فعنونو كان ملفقا، وأن فعنونو ربما لا يكون في بريطانيا أصلا.
وفي هذا الصباح التقط فنونو صحيفة الصنداي من احد باعة الصحف في شارع غير رئيسي بلندن وفوجئ بأنها تنشر ما قاله بيريز فطواها بسرعة وهرع الى حيث يقيم. وبدأ يلملم اغراضه فلابد أن الموساد سيبدأ في البحث عنه. وهبط من الشقة بسرعة واجتاز الطريق الجانبي حتى وصل الى محطة لمترو الانفاق.
الشقراء وعملية الاختطاف
اتصل فعنونو بصديقه اوسكار فلم يجده، فقرر زيارة المحرر الانجليزي في مقر الـ «صنداي تايمز»، وبعد نصف ساعة خرج ليجلس على مقهى وطلب فنجانا من القهوة، ودخلت فتاة شقراء ابتسمت له فدعاها الى فنجان قهوة ولم تمانع، وتكررت لقاءاتهما الى ان اختفت فجأة. هذه الفتاة «سيندي» عميلة الموساد ادعت أنها خبيرة تجميل من فلوريدا، وقد أُرسلت لاستدراجه إلى خارج بريطانيا.
مضت عدة ايام قبل ان يخرج من مكمنه مرة اخرى، وسار في اتجاه ميدان ليستر، وهناك وجد «سيندي» أمامه، فعاتبها على اختفائها فتعللت بالمرض وقالت له: «سأعوض لك غيابي، ما رأيك لو سافرنا الى روما عدة أيام، حيث شقة اختي هناك وهي غير موجودة الآن، بشرط ان تشتري انت التذكرة». وسقط في الفخ لانقطاعه لفترة طويلة عن الجنس على رغم تحذير رجالات الـ «صنداي تايمز» له من أنها قد تكون من الموساد. بعد يومين كان معها في مطار هيثرو على متن الطائرة الى روما في 30 سبتمبر 1986، وما ان دخل الشقة في روما حتى فوجئ بثلاثة اشخاص يقيدونه ثم قامت سيندي بحقنه بحقنة مخدرة ووضع في صندوق ونقل بطائرة صغيرة الى ميناء بحري اذ ظل في البحر اسبوعا قبل ان يصل «إسرائيل»، ويلقى في زنزانة مظلمة. وبعد اختفائه من بريطانيا وانقطاع اخباره عن أهله وصل الى شقيقه ان أخاه اختفى في ظروف غامضة في بريطانيا، فهدد برفع الامر الى المحكمة العليا إن لم تكشف الحكومة الاسرائيلية النقاب عن سر اختفائه، فأعلنت الحكومة بعد 40 يوما من اختفائه أنه موجود في «إسرائيل» ورهن المحاكمة. وحوكم بثلاث تهم: الخيانة والتجسس الخطر وجمع معلومات سرية بقصد إضعاف أمن الدولة. وعقدت المحكمة بشكل سري بالقدس وغطيت نوافذها بلون قاتم، وخلال نقله من السجن الى المحكمة كان رجال الشرطة يلبسونه خوذة حتى لا يسمع اسئلة الصحافيين ولا يستطيع الكلام ولكنه مع ذلك استطاع اثناء عودته من إحدى جلسات المحاكمة الى السجن من عسقلان ان يكتب تفاصيل ما حدث له على راحة يده وذراعه ويضع كف يده على نافذة السيارة حيث عرف العالم كله انه خطف من روما بوساطة الموساد وسيندي. في مارس/ اذار 1988 حُكم على فعنونو بالسجن 18 سنة واعتبر خائنا وقد أمضى 11 سنة ونصف السنة في زنزانة انفرادية كفيلة بتسبب الجنون، إلا انه كتب في إحدى رسائله: «إنهم يريدونني أن أجن، ولكنني بكامل قواي العقلية». و هكذا راح فعنونو ضحية كشفه سر السلاح النووي الإسرائيلي أو «قدس الأقداس» في «إسرائيل»
العدد 595 - الخميس 22 أبريل 2004م الموافق 02 ربيع الاول 1425هـ