يقال إنه أقبل إلى بيت أم كلثوم عدد من الأصدقاء لتهنئتها بالعيد، وكان بينهم أحد كبار الأثرياء، وفي أثناء الحديث قال هذا الثري: لمّا كان هذا اليوم مباركا فالواجب يقتضي أن نوجه ابتهالاتنا إلى الله بالدعاء ليستجيب لنا، ورفع يده إلى السماء وقال: يا رب أعطنا مما عندك، فالتفتت إليه أم كلثوم ضاحكة وقالت: «يا راجل عيب. هو خليت عنده حاجة؟» وهو ما يذكرنا بما يحدث في بلادنا إذ تكاد لم تبقِ الحكومة من صلاحيات المجلس النيابي شيئا، فعلى رغم أننا نحاول أن نقنع أنفسنا وخصوصا أعضاء الجمعيات التي شاركت في الانتخابات ولم تعارض كبعض زميلاتها اعترافا بأن دستور 2002 خطوة للأمام، معربين عن ثقتهم في خطوات جلالة الملك الإصلاحية، فإن الحكومة - بإعلانها على المكشوف على لسان ممثلها وزير شئون مجلس الشورى والنواب في رسالته إلى رئيس مجلس النواب خليفة الظهراني التي كشف فيها رفض الحكومة استجواب الوزراء الثلاثة - تجعل من المجلس مكان لاثارة الزوابع دون قدرتها على القيام بدور إيجابي، ما يعزز كلام الجمعيات الأربع المعارضة في الشارع البحريني عن عجزه عن تحقيق طموح الشعب وخدمة المواطن البحريني، وبهذه الخطوة لم تترك الحكومة شيئا لدى النواب يجيبون به الشعب البحريني من أنهم يمارسون دورهم النيابي بشكل جاد من خلال الدستور الجديد.
فإذا تم سحب آخر بساط من تحت أقدامهم لم يبقَ لهم ما «يتباهون» به من انجازات وتوفير حقوق الشعب البحريني. وكما قالت أم كلثوم مازحة للثري: «يا راجل... هو خليت عنده حاجة؟».
إن المشكلة لا تكمن في المجلسين وصدمة أعضاء المجلس النيابي، لكنها تكمن في أن الشارع البحريني الذي قام بانتخاب هؤلاء الأعضاء هو الذي يضغط عليهم، فقد سمعت بأذني وشاهدت بأم عيني كيف يطالبون في المجالس التي أزورها عادة في المحرق وعراد الأعضاء الذين يلتقونهم بالتسريع في استجواب الوزراء، وكأنهم بذلك يريدون أن يطهروا البلاد من الأخطاء.
و لأن الحكومة رفضت فعلا استجواب الوزراء فمن يكون الخاسر الأكبر في هذه العملية؟ قد يكون هذا انتصارا مؤقتا لها لكن العملية الإصلاحية هي التي ستكون الضحية، والديمقراطية ودستور 2002 هما الخاسران الحقيقيان، ما يفرض على الجمعيات التي لم تشارك (جمعيات المعارضة الأربع) أن تتراجع عن موقفها وتنضم مرغمة إليها، وبالتالي تكون القيادة الإصلاحية خسرت ما بنته وراهنت على اتساعه مع الأيام وتقوية أرضيته، وهو زيادة عدد المقتنعين بأهمية الدستور الجديد وفاعليته حين يشعر المواطن بأهمية إنجازات المجلس الجديد، فيفرح المشاركون ويقتنعون بأنهم كانوا على حق، ويندم غير المشاركين، وهذا ما كانت تراهن عليه القيادة الإصلاحية بحسب ظني.
مشاركة 53 في المئة من المواطنين في الانتخابات الأولى لا تعتبر نجاحا كبيرا، بعد بذل كل ما بالوسع لزيادة عدد المشاركين من أساليب. وكان الرهان على المستقبل بعد أن يحس المواطن بطعم إنجازات مرشحيه، وكاد المجلس يسقط من عين المواطن في بداياته لولا مَنّ الله عليهم بقضية «الصندوقين» فالتهى الشعب بها مع أن البطولة لا تعود للأعضاء بقدر ما تعود لمديرها العام الشيخ عيسى بن إبراهيم آل خليفة الذي فجر الموقف بالكشف عن إفلاسهما من خلال الدراسة الإكتوارية، وبذلك تمكن المجلس من استعادة شيء من هيبته.
وكما يقول المصريون «يا فرحه ما تمت» إذ تأتي الخطوة الحكومية الأخيرة لتقضي على هيبته من جديد بعد أن بدأت الجمعيات المعارضة تفقد الكثير من قيادييها المعتدلين بسبب شعورهم بأن إبداء المرونة أقرب إلى الحصول على مكاسب وطنية جديدة واتباع نظرية الجمعيات المرنة أقرب إلى الموضوعية، وأن لغة الخطاب التحريضي في ميزان الربح والخسارة تكون هي الخاسرة وخصوصا بعد أن اقتنعت بأن المجلس النيابي بشكله الحالي ليس كما يروج عنه المتشددون كما قال سعد زغلول عندما سئم حركة الإنجليز: «مفيش فايده».
إن ما جرى من إفساح المجال لأعضائه بالتحقيق في تجاوزات صندوقي التقاعد والتأمينات أعاد الثقة في المجلس النيابي بشكله الحالي ولام بعض القياديين زملاءهم الذين تشددوا في رفض المشاركة في الانتخابات النيابية وخصوصا بعد أن تمكّن عدد محدود من أعضاء المجلس من لعب دور نشط في الكثير من القضايا. وكان التحقيق مع هذه الجهات قمة نجاح فترة الإصلاح في البلاد، ما كاد يخلق منعطفا جديدا في البلاد علما بأنه كان يمكن التفاهم مع الأعضاء حتى في حال السماح للمجلس باستجواب الوزراء، فإن كانت مواقف هؤلاء سليمة فماذا يضيرهم الاستجواب، لكن جاء الرفض المفاجئ «غير القانوني وغير المبرر» بحسب تعبير النائب فريد غازي تعليقا على رسالة الفاضل: «إن استخدام وزير الدولة لشئون مجلسي الشورى والنواب عبدالعزيز الفاضل تجاوز صلاحياته بمخاطبة المجلس التشريعي بهذا الأسلوب ما يعطي مؤشرا خطيرا وتدخلا مباشرا من قبل السلطة التنفيذية في أعمال السلطة التشريعية، وهو ما يتعارض مع مبدأ فصل السلطات، والرسالة الأخيرة التي تسلّمها النواب لا يمكن من حيث الشكل الإجرائي قبولها لأنها مخالفة للقانون». وكان مبرر ذلك بحسب النائب فريد غازي مرة أخرى أن «عدم قانونيتها يأتي من منطلق صدورها من وزير ليس مختصا بمخاطبة المجلس التشريعي عن أمر يتعلق بمجلس الوزراء والحكومة».
إن إضعاف دور المجلس والالتفاف حول صلاحياته سيكون بمثابة نسف لكل آمال وتطلعات القيادة الإصلاحية الجديدة التي حظيت مع الأيام بقاعدة جماهيرية في مقابل تقليص عدد المتنفذين، ما كان ينبئ بعودة الصفاء للأجواء السياسية ومستقبل زاهر لهذا الوطن وقبول شبه جماعي للدستور الجديد مع مرور الأيام.
خلال المجلس الوطني الأول وحين أريد استجواب احد الوزراء انتهت المشكلة بتقديم استقالته في «خلوة» تجمع الطرفين الحكومة ونواب الشعب.
ترى ماذا استفادت الحكومة بإثارة هذه الزوبعة غير نسف الجسور التي كانت تبنيها القيادة الإصلاحية الجديدة مع مختلف أطياف المواطنين بعد تضعضع ثقة المواطن بمجلسه النيابي الجديد، فتم نسف الاستقرار السياسي بعد نسف العلاقة مع أولئك المستثمرين وخصوصا الخليجيين الذين آلوا على أنفسهم أن يقيموا قاعدة صناعية وتجارية في البحرين بدلا من أية منطقة أخرى مفضلين سلوكيات وأخلاقيات وطاقات عمل المواطن البحريني على غيره، لكن العقبات التي واجهتهم دفعتهم للهروب.
وباختصار شديد: إن خسارة البحرين بحسب تقييم المحللين السياسيين كانت كبيرة آنذاك، فحين يحكم الشعب الوطن بنفسه من خلال الدستور ساعتها يستميت في الدفاع عنه لأنه يعتبر نفسه إنسانا أساسيا له اعتباره واحترامه ومكانته وهويته التي يعتز بها، ما يجعل دفاعه عنه مسألة حياة أو موت، لا إنسانا هامشيا ورقما لا قيمة له كما يحدث في بعض الدول الأخرى. وقد رأينا أكبر العناصر الكويتية المعارضة من أعضاء البرلمان أو خارجه إذا ظهر في الفضائيات يقول ما لا تقوله الحكومة في الدفاع عن النظام وشرعيته، صحيح أنه حدثت بعض الجفوة في مراحل معينة بينهما وتم إيقاف العمل بالدستور إلا أنه لم تكن الفترة تتجاوز الفترة التي يسمح بها القانون نفسه.
إن الوزراء الذين لم يرتكبوا تجاوزات لا خوف عليهم من الاستجواب، والاستجواب سيطهرهم من آثام لم يرتكبوها إلا إذا كان في المسألة «إنّ وأخواتها» كما يقولون، فمثل هذا أو ذاك ساعتها يستحق المساءلة، ولكن السؤال الساذج الذي يرد على ذهن البسطاء: ماذا يضير الحكومة من مساءلة بعض الوزراء إذا كانت تعرف أن رايتهم بيضاء وهم لم يلمسوا المال العام؟
إن رفض الحكومة استجواب الوزراء بهذا الشكل ضربة قاضية لآمال الشعب البحريني وإحساسه بأنه تمت إعادة الحياة النيابية إليه، وما جرى في المجلس بمثابة نقلة في حياته المستقبلية جدّدت آماله في حياة كريمة تخلو من أشكال الفساد والنهب الذي عاشه طوال مرحلة إيقاف العمل بالدستور، فلمصلحة من يراد الإضرار بالدستور الجديد والمجلس النيابي في الصميم؟
إننا في مرحلة مختلفة عن مرحلة السبعينات، الوضع الدولي والإقليمي مختلف، والدول الأوروبية وحتى الطاغي الأميركي أدركا أن الجوع كافر، وأنه ما لم تشارك الشعوب في الحكم من خلال نظام إصلاحي يحفظ حقوق المواطنين فإن الأرض ستكون خصبة لتوسيع قاعدة المتطرفين، ما دامت الحياة الكريمة صعبة المنال، فهناك مجال واسع للالتحاق بركب الشهداء في الجنة، ما يخلق جحيما على دماغ الولايات المتحدة ومصالحها، وهذا ما يريدون تجنبه لا حبا في شعوب الشرق الأوسط بل تخلصا من شرورهم.
ان الناس ينتظرون من جلالة الملك تصحيح ما حدث لأن كل الآمال معلقة عليه، في حسم مثل هذه القضايا ومواصلة مسيرة الديمقراطية برفض نحرها في منتصف الطريق. إن الشعب البحريني يتطلع بشغف بالغ إلى ملكه المحبوب ليضع حدا لما يجري وهو يدرك جيدا أنه الحَكَم الوحيد القادر على إيقاف هذه الممارسات التي قد تفقد ثقة المواطن البحريني في عصر الانفتاح والشفافية والديمقراطية الذي صنعه جلالته...
هذا العصر الذي جاء بجهوده وحكمته وإدراكه الواعي بأن عملية الشد واللعب خارج إطار الزمن وإبقاء عصر الفساد في عالم متغير جديد غير ممكن اليوم، وربما سيؤدي إلى تراكمات وكوارث لا يمكن التعرف على أبعادها
العدد 595 - الخميس 22 أبريل 2004م الموافق 02 ربيع الاول 1425هـ