العدد 593 - الثلثاء 20 أبريل 2004م الموافق 29 صفر 1425هـ

العرب بين صفقة شارون... وصفعة بوش!

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

أتم شارون الصفقة، ووجّه بوش الصفعة...

الصفقة على حسابنا ولصالح «إسرائيل» تماما، والصفعة لنا وعلى حساب قضية فلسطين بل قضية السلام في المنطقة...

من دون لف أو دوران، هذه هي خلاصة ما جرى خلال الأيام القليلة الماضية، وخصوصا خلال الساعات الست والثلاثين التي قضاها سفاح «إسرائيل» في العاصمة الأميركية واشنطن إذ التقى بالرئيس بوش، وخرجا معا بعد اللقاء يعلنان للعالم سقوط كل المحرمات وكل الشرعية الدولية، ودفنها في تراب التآمر التاريخي والخديعة الكبرى...

ومن باب التذكير في مقدمة هذا الحديث، نقول إن بوش هو أول رئيس أميركي أو غير أميركي يقدم تعهدات خطية خطيرة ومكتوبة، عبر رسالة تعهدات أو رسائل متبادلة موقعة من الطرفين، تعطي «إسرائيل» فوق كل ما كانت تحلم به، وتنتزع من الشعب الفلسطيني «حقوقه الشرعية الثابتة غير القابلة للتصرف» وفق الشرعية الدولية... وهي تعهدات على كل حال تنص على أربعة بنود رئيسية هي:

الاعتراف الأميركي بحق «إسرائيل» في انتزاع أراض فلسطينية «تحت الاحتلال» وضمها نهائيا، تتمثل خصوصا في الاحتفاظ بما يسمى الكتل السكانية الكبرى في الضفة الغربية، وهي المستعمرات والمستوطنات اليهودية المقامة في الأرض المحتلة، خصوصا مستعمرات «ارييل، ومعالي أدوحيم، وجوش اتسيون، وكريات عربة، وجيفت زيف، والوجود اليهودي في مدينة الخليل».

وهذا اعتراف يناقض كل المرجعيات والشرعية الدولية، ابتداء من قرار التقسيم رقم 181 العام 1949، وانتهاء بالقرارين 242، و338، مرورا بمرجعية مؤتمر مدريد واتفاقات أوسلو وطابا وغيرها، وكلها مرجعيات تقوم على مبدأ الأرض مقابل السلام وعلى عدم الاعتراف بشرعية الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية، وهي مرجعيات ساهمت الإدارات الأميركية في بنائها والعمل على تطبيقها، قبل أن يأتي بوش لينسفها!

يتصل بذلك قضية الحدود بين الدولتين، فلسطين و«إسرائيل»، فوفقا للتعهد الأميركي السابق، أسقط الرئيس بوش مرة أخرى، شرعية القرارات الدولية التي نصّت على العودة إلى حدود ما قبل الرابع من يونيو/ حزيران 1967، قائلا إنه من غير الواقعي - بناء على الحقائق الديمغرافية الجديدة على الأرض - العودة إلى خطوط الهدنة للعام 1949، وبالتالي حدود 1967، وهذا أمر خطير لأنه يضفي شرعية أميركية صريحة على الاحتلال واغتصاب أراضي الغير بالقوة المسلحة، فإن كان بوش في صفقته المريبة مع شارون يطبق المبدأ في فلسطين، فهو بالتأكيد سيطبقه - كأمر واقع وسابقة تاريخية - في الجولان السورية، حين يأتي أوانها...

أما البند الثالث في خطاب التعهدات، فهو إسقاط حق العودة للاجئين الفلسطينيين المشردين - نحو ستة ملايين - وهو حق كفلته لهم أيضا كل القرارات الدولية لكي يعودوا إلى مدنهم وقراهم، التي طردتهم منها العصابات الصهيونية على مدى الخمسين عاما الماضية، في ممارسة فاضحة للتطهير العرقي، ومازالت تفعل من دون هوادة.

وقد ألزم بوش نفسه وبلاده، بأن تبقى «إسرائيل»، «دولة يهودية صرفة»، فلا يعود إليها اللاجئون الفلسطينيون ليلوثوا نقاءها العرقي والديني المتعصب، ولكن ليذهبوا إلى الدولة الفلسطينية المزمع إقامتها، أو يجرى توطينهم حيث هم، سواء في سورية والأردن «التي يعيش فيها وحدها 1,8 مليون لاجئ» ولبنان ومصر والخليج، أو في المهاجر الأوروبية والأميركية البعيدة، بصرف النظر - مرة أخرى - عن قرارات الأمم المتحدة التي كفلت لهم خيارين يتم التفاوض عليهما في مراحل التسوية النهائية، إما العودة الى ديارهم التي طُردوا منها، أو التعويض المناسب!

أما عن القدس المحتلة، فلا ذكر ولا حديث، إذ على رغم أن القدس الشرقية هي جزء رئيسي من الأرض الفلسطينية المحتلة العام 1967، وبالتالي تنطبق عليها كل القرارات والمرجعيات الدولية، فإن بوش لم يأتِ على ذكرها في تعهداته المكتوبة أو في كلامه الشفهي في المؤتمر الصحافي مع حليفه شارون، لأنه اعتبرها مثلما يعتبرها شارون وباقي العصابة النازية، عاصمة أبدية لـ «إسرائيل» لا كلام فيها أو حولها...

والحقيقة أن الرئيس بوش، حليف العرب الاستراتيجي وصديقهم الأعز، قدم إلى «إسرائيل» هدية تاريخية تعادل هدية إنشائها التي قدمها وزير خارجية بريطانيا السابق بلفور العام 1917 وقدم إلى شارون هدية سياسية لا سابق لها، لإنقاذه من ورطته الداخلية وتعويمه من مأزقه الراهن، وتبنى صراحة 14 تحفظا أبداها شارون منذ البداية على «خريطة الطريق» التي اخترعتها واشنطن، وتبنتها رباعية الأمم المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وبذلك وضع نهاية الطريق أمام «خريطة الطريق»، ووضع العرب جميعا في مأزق تاريخي يعود بهم عمليا خمسين عاما إلى الوراء، من معاناة الصراع المسلح ومقاومة العدوان ومخططات الترانسفير والتطهير العرقي، وبقي الفلسطينيون وحدهم تحت الإبادة المنظمة، ولا عزاء للشرعية الدولية وكل قرارات الأمم المتحدة والقمم العربية والإسلامية!

ولا عزاء أيضا لجماعات المتأمركين العرب وبقايا تحالف كوبنهاغن، الذين صدّعوا رؤوسنا بضرورة الحوار والتقارب مع «إسرائيل» وتشجيعها بمبادرات عربية لقبول السلام والسماح للفلسطينيين بالعيش في دولة حتى لو كانت كرتونية، وعد الرئيس بوش بإقامتها... وها نحن اليوم نواجه حقيقة السياسة الإسرائيلية التوسعية العدوانية، مثلما نواجه حقيقة السياسة الأميركية المتآمرة، وها نحن نقبل على عصر جديد تزداد فيه العدوانية النازية الإسرائيلية، تحت الحماية الأميركية كما أكدها بوش في خطاب تعهداته إلى شارون، وفي المقابل تزداد فيه موجات العداء والكراهية لصديقتنا وحليفتنا الاستراتيجية أميركا... فمن هو السبب وراء ذلك؟...

لن نجيب، فإجابتنا معروفة مسبقا، ولكن دعونا نسمع الإجابة الواضحة على لسان واحد من أهم رموز السياسة الأميركية على الاطلاق، وهو مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر، مهندس اتفاقات كامب ديفيد وراعيها «زبغينو بريغنسكي»، يقول الرجل بوضوح: «إذا لم تتوخَ أميركا الحذر فإنها ستصبح العدو الرئيسي لكل العالم العربي والإسلامي، وطبقا للتراكم فإن ذلك سيكون كارثة لأميركا أولا ولـ «إسرائيل» أيضا باعتبارها تحت الحماية الأميركية... إن واشنطن في عهد بوش تتواطأ مع شارون لفرض السلام بالقوة ومن دون مشاركة الفلسطينيين، وهو سلام لن يفتقد الدعم الدولي فقط، وإنما يفتقد الشرعية في «الشرق الأوسط»، وساعتها لن يمكن لأميركا الوصول إلى حل منصف وعادل للصراع يقبل به العالم!».

هل هناك أوضح من هذه الشهادة الأميركية، على رعونة السياسة الأميركية؟!

الآن... حين ننظر في الأمر بدقة نجد أن أطرافا ثلاثة في مأزق رهيب...

فشارون وبوش في مأزق متشابه مع الداخل الأميركي والإسرائيلي، ومع سياساتهما الإقليمية والدولية... كلاهما يحتاج إلى الآخر لإنقاذه وتعويمه سريعا...

بوش دخل الشهور الحاسمة من معركته الانتخابية لتجديد ولايته الثانية - نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، وهو يعاني وضعا انتخابيا صعبا، على رغم ضعف منافسه المرشح الديمقراطي (كيري)، وهو مسئول عن تردي الأوضاع الاقتصادية الأميركية، بعد الازدهار الذي تركه سلفه كلينتون، وهو متورط حتى أذنيه في حروب دامية في العراق وأفغانستان، بحجة محاربة الإرهاب، وهو مواجه بعداء عربي إسلامي شعبي عميق، وبعلاقات فاترة ومتوترة مع أوروبا والصين وروسيا، الأمر الذي ينعكس سلبا على فرص نجاحه...

ولذلك، فهو في حاجة إلى إنجاز في السياسة الخارجية، يحشد الأصوات الانتخابية حوله، ومن ثم فقد توجه مباشرة إلى ممالأة الصوت اليهودي واللوبي الصهيوني المؤثر، والذي لم يصوت له العام 2000 إلا بنسبة أقل من 20 في المئة في حين أعطى 82 في المئة لمنافسه آل غور... هكذا كما نتصور دفعه صقور المحافظين الجدد واليمين المسيحي المتشدد ومنظمات اللوبي الصهيوني، إلى تقديم الهدية التاريخية إلى شارون صاحب التأثير القوي على كل هؤلاء، فانساق واندفع وفعل ببهجة بادية على وجهه البشوش!

وفي المقابل، فإن شارون في مأزق داخلي عظيم، ليس فقط بسبب اتهامه بالفساد والرشوة، ولا بسبب خلافاته المعروفة داخل مجلس وزرائه وتحالفه السياسي مع الأحزاب الدينية المتطرفة، ولكن أساسا بسبب إغراقه الإسرائيليين في دوامات من الدم النازف، نتيجة سياساته الوحشية في الاستخدام المفرط للقوة العسكرية ضد الشعب الفلسطيني، ومن ثم رد الفلسطينيين على دمويته بالنخر في الجسد الإسرائيلي!

لقد وعد ناخبيه فور نجاحه قبل ثلاث سنوات بأنه يريد مئة يوم فقط ليأتي بالأمن إلى «إسرائيل»، وها هي السنوات تكر، والأمن يتبدد كل يوم والدماء تجري أنهارا هنا وهناك، ومن ثم ابتكر مشروع الجدار العنصري العازل، أولا، ثم لجأ إلى الهروب من «المستنقع الدامي» بمشروع الانسحاب الأحادي من غزة، بؤرة النار والاستنزاف، ليركز الاستيطان في الضفة ويمارس الترانسفير مع القمع والاغتيال والتدمير والتطهير العرقي، وهو مشابه لما يفعله جنود بوش في العراق... احتلال وقمع وقهر بالقوة العسكرية المفرطة!

ولم يجد في واشنطن إلا كل أذن صاغية وإدارة مطيعة ورئيس مستجيب ورعاية فائقة وتعهد تاريخي لم يحدث طوال 56 عاما هي عمر الصراع، وهكذا جاءته ورقة الإنقاذ على طبق من ذهب أميركاني مسبوك ومضمون!

يبقى الطرف الثالث في المأزق والأزمة، ونعني العرب، الذين تلقوا الهدية «الصفعة» الأميركية بعد أن فاز شارون بالصفقة...

بصرف النظر عن كل مشاعر الإحباط التي أصابت الجميع حكاما ومحكومين، حلفاء أميركا أم خصومها، بصرف النظر عن خيبة أمل الشعوب وعجز الحكومات في مواجهة هذا الانقلاب المذهل في السياسة الأميركية... نتساءل: ما العمل الآن؟...

من باب الأمل الواهي والأخير لدينا، نقول: هل نحلم بأن تسرع القمة العربية «المفكوكة» بالانعقاد، لتبحث موضوعا وحيدا عنوانه «إعادة تقييم وتقويم العلاقات العربية الأميركية» في ضوء الصفقة وإهانة الصفعة؟... أم أن الأمر عسير، والرد مستحيل؟!

خير الكلام:

قال تعالى: «إن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم» (الرعد: 11)

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 593 - الثلثاء 20 أبريل 2004م الموافق 29 صفر 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً