تحتل مرحلة التعليم الثانوي مركزا مهما في أي نظام تعليمي لكونها تمثل المرحلة النهائية من الدراسة النظامية لغالبية الطلبة، إضافة إلى ما لهذه المرحلة من ارتباطات متعددة تؤثر على مستوى ادائها ونوعية برامجها. فهذه المرحلة مرتبطة في بدايتها بالتعليم الإعدادي وبالتالي فهي متأثرة بشكل كبير بمستوى هذا التعليم ونوعية خريجيه. كما أنها مرتبطة بمتطلبات التعليم العالي بمختلف مؤسساته وكلياته وتخصصاته وكذلك بمتطلبات سوق العمل وإعداد الطالب للحياة والمواطنة بشكل عام. وبالتالي فجودة التعليم الثانوي ومستوى أدائه يتقرران إلى درجة كبيرة بجودة هذه الارتباطات ونوعيتها.
هذا الوضع يحتم ألا ينظر إلى إصلاح التعليم الثانوي بمعزل عن المتغيرات داخل النظام التعليمي أو المتغيرات والمستجدات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الخارجية التي تؤثر وتتفاعل مع هذا النظام.
يمكن القول إن البحرين شهدت وخصوصا خلال السنوات العشر الأخيرة تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية متسارعة أفرزتها بدرجة كبيرة المتغيرات والمستجدات على الساحة الدولية والتي من أبرزها التقدم الهائل في مجال تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، وبروز العولمة في أشكالها السياسية والاقتصادية والثقافة.
في المجال السياسي انتشرت مفاهيم الحرية والديمقراطية والشفافية والمشاركة. واقتصاديا تم تحرير حركة التجارة العالمية وما أدت إليه من الإسراع في تغيير انظمة الدول الاقتصادية والتعليمية لتعزيز قدراتها التنافسية. وتبوأ التعليم في إطار هذه الاصلاحات موقعا استراتيجيا بصفته الوسيلة الأساسية لتحسين الأداء الاقتصادي ورفع مستوى المعيشة وتحقيق الاستقرار الاجتماعي والسياسي للدولة.
وإلى جانب التحديات السياسية الاقتصادية للعولمة ومضامينها بالنسبة إلى التعليم تطل علينا كذلك التحديات الثقافية للعولمة والتي لا تقل أهمية عن التحديات الاقتصادية إن لم تكن أهم منها. وتتمثل هذه التحديات في الفضائيات الإعلامية وشبكة الإنترنت والفضاء الإعلامي المفتوح والوسائط المتعددة للمعلومات، التي بفعلها أصبح مجتمع البحرين معرضا ولأول مرة في تاريخه إلى هذا السيل الإعلامي والثقافي المتدفق الذي لا يعرف حدودا. إن هذا السيل على رغم ما فيه من عناصر خير كثيرة بفعل ما أنتجته الحضارة الإنسانية فإنه يحوي الكثير من القيم والسلوكيات الخطرة على وحدة المجتمع ويأتي في مقدمة هذه التحولات مشروع الإصلاح الوطني الذي دشنه جلالة ملك البلاد، وتحول البحرين إلى مملكة دستورية، وما يفرضه من بناء دولة القانون والمؤسسات وترسيخ المبادئ السامية التي نص عليها الدستور وإيجاد الآليات القانونية لتنظيم الحياة وحماية الحقوق ونبذ العنف.
هذه التحولات والتحديات تلقي على المؤسسة التعليمية تبعات كثيرة تتمثل في تربية الطالب التربية الوطنية السليمة التي حددها الدستور بالشكل الذي يعزز المشروع الإصلاحي ويدفعه إلى الأمام وتنمية روح الانتماء للوطن والاعتزاز بالهوية العربية والإسلامية وتنمية التفكير الموضوعي القادر على التحليل والنقد عند المواطن وتعزيز قدرته على العمل والإنتاج وتبني الأفكار والسلوكيات التي تصب في صالحه وصالح مجتمعه بشكل يسمو على النعرات والانتماءات الطائفية أو المذهبية أو الإثنية الضيقة.
هذه المتغيرات التي يشهدها مجتمع البحرين تفرض الحاجة إلى مراجعة شاملة للتعليم الثانوي من حيث أهدافه وهيكلته وآلياته، المتمثلة في تقسيم هذا التعليم إلى فروع: أدبي، علمي، صناعي، تجاري، حرفي... إلخ، وإن كانت مناسبة في الماضي فإنها بالتأكيد لم تعد صالحة لإعداد الطالب وفق متطلبات الحياة المتجددة.
وقد عملت وزارة التربية والتعليم خيرا بتوجهها لتطوير هذا التعليم وتحسين مردوده في إطار توحيد مساراته لتمكينه من مواجهة التحديات التي من أبرزها:
1- تدني مستويات التحصيل الأكاديمي لنسبة كبيرة من خريجي هذا التعليم وخصوصا في المواد الدراسية الأساسية: اللغتين العربية والإنجليزية، والرياضيات والعلوم، وعدم إتقان المهارات والكفايات بالمستوى الذي يؤهلهم للالتحاق بالتعليم العالي أو الدخول في سوق العمل.
2- الإقبال المحدود على التعليم الصناعي وتوجه غالبية خريجي الإعدادي المتميزين في دراستهم إلى التعليم الثانوي الأكاديمي، ما أدى إلى ترسيخ النظرة الدونية إلى التعليم الفني، وبالتالي إضعاف قدرته بشكل كبير وعلى مدى العقود الماضية على إعداد القوى العاملة الفنية التي يحتاجها سوق العمل من حيث النوع أو الكم. وتشير احصاءات التعليم إلى أن معدل عدد خريجي المدارس الثانوية الصناعية هو في حدود 900 طالب سنويا. وإذا ما أخذنا في الاعتبار وجود أكثر من 60,000 عامل فني وحرفي أجنبي في سوق العمل في البحرين حاليا فإن بحرنة هذه الفئة من المهن فقط ستحتاج إلى أكثر من 100 سنة.
3- التفريع الحالي للتعليم الثانوي يضع الطلبة في مأزق كبير إذ عليهم وهم في مرحلة مبكرة من عمرهم (الإعدادية) أن يحددوا مستقبلهم الدراسي أو المهني باختيار فرع التعليم الثانوي الذي يريدونه وهم غير مدركين مدى ملاءمة هذا الاختيار لقدراتهم وطموحاتهم المستقبلية. كما أن هذا التفريع ذي الدوائر التخصصية المغلقة لا يتيح للطالب تغيير تخصصه أو الانتقال إلى فرع آخر حتى وإن تبين أن الفرع الذي اختاره لا يتناسب مع استعداداته وامكاناته.
4- يمثل التفريع الحالي للتعليم الثانوي إحباطا لأحلام وتطلعات الكثير من الطلبة الذين يودون مواصلة تعليمهم الجامعي، إذ إن خريجي التعليم الثانوي الصناعي والتجاري يلاقون صعوبة في قبولهم في كثير من الجامعات العربية على اعتبار أن شهادة إتمام هذين الفرعين هي شهادة مهنية لا ترقى إلى المستوى الأكاديمي.
ونتيجة لهذه الصعوبات ونقاط الضعف في نظام التعليم الثانوي ذي التخصصات المغلقة وعدم قدرته على التجاوب مع التحديات التي يفرضها عالم اليوم ومتطلبات إعداد النشء دفعت الكثير من الدول وخصوصا المتقدمة منها إلى التخلي عن هذا النوع من النظام في التعليم الثانوي والتوجه إلى الأخذ ببنى تعليمية أكثر مرونة وتكاملا في أهدافها وآلياتها. ومن بين هذه البنى المدرسة الثانوية الشاملة (الجديدة)، وهي تأتي تحت مسميات كثيرة مثل مسمى مدرسة الخيارات Optional School أو Alternative School. ونجد هذا النظام من التعليم الثانوي منتشرا في الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وبعض الدول الاسكندنافية. ويقوم على أساس فلسفة تربوية تؤكد تكامل المعرفة الإنسانية وتقديم التعليم الثانوي للطلبة في مسار دراسي موحد يتسم بالتنوع والمرونة الكافية في مساقاته الدراسية بالشكل الذي يلبي احتياجات المتعلمين المختلفة. وتخدم المدرسة الثانوية الشاملة ثلاث وظائف أساسية هي:
1- تزويد جميع الطلبة بمستوى جيد من الثقافة المشتركة الشاملة في مختلف المجالات العلمية والأدبية والفنية والتكنولوجية.
2- إعداد الطلبة سواء للتعليم العالي الجامعي أو الالتحاق بالكليات والمعاهد الفنية المتوسطة (كليات المجتمع) لإعدادهم لسوق العمل في التخصصات والمجالات التي يرغبونها.
3- تقديم مساقات دراسية تخصصية متقدمة (advanced) ومعتمدة من قبل مؤسسات التعليم العالي للطلبة المتميزين والمتفوقين في دراستهم القادرين على أخذها كجزء من دراستهم الجامعية (كل متعلم بحسب قدرته وسرعة تعلمه).
إن الأخذ بالمدرسة الثانوية الشاملة سيؤدي إلى تحسين مستوى إعداد القوى العاملة الماهرة والفنية وجعلها مهيأة بشكل أفضل للاندماج في سوق العمل. بل ان برنامجا للاعداد المهني بهذا المستوى سيكون أكثر جاذبية لأعداد أكبر من خريجي التعليم الثانوي. وبالتالي سيخفف الضغط الكبير الحاصل حاليا على التعليم الجامعي وسيكون لذلك انعكاساته الايجابية على تحسين نوعية التعليم الجامعي وتقليص أعداد الخريجين منه ليناسب احتياجات برامج التنمية وسوق العمل ويحد من تنامي مشكلة بطالة خريجي الجامعات.
غير أنه ينبغي الأخذ في الاعتبار أن تبني المدرسة الثانوية الشاملة لا يمثل إلا عنصرا واحدا من مشروع إصلاح التعليم الثانوي، الذي ينبغي أن يطال جميع أوجه وعناصر العملية التربوية ويشمل أيضا الآتي:
1- وضع نظام متكامل لتقويم أداء التعليم الثانوي وفق معايير ومستويات عالمية وخصوصا في المواد الدراسية الأساسية.
2- اعتبار القطاع الخاص شريكا أساسيا في التعليم والتدريب واعتماد نظام متكامل من الإجراءات والحوافز لتشجيع هذا القطاع على الاستثمار وخصوصا في التعليم العالي الفني والمساهمة بخبراته وامكاناته وتوفير التدريب للطلبة في مؤسساته الصناعية والإنتاجية والخدماتية.
3- اعتبار المدرسة وحدة تربوية متكاملة وإعطائها صلاحيات أوسع في إدارة عملية التعلم والتعليم وفي العمل الإداري وتشجيعها على المبادرة والمشاركة في عمليات التطوير وتحسين أداء النظام التعليمي.
4- العمل على تفعيل دور المعلمين الأوائل في المدارس الثانوية لتعزيز مساهمتهم في تطوير أداء المعلمين ورفع كفاءتهم والتعاون مع الوزارة في توفير التدريب المستمر لهم أثناء الخدمة وفق احتياجاتهم التدريبية.
5- تطوير استراتيجيات التعلم والتعليم ونقلها من التركيز على الحفظ إلى الفكر وتنمية مهارات التعلم الذاتي ومهارات التفكير العليا عند الطلبة كالقدرة على التحليل والقدرة على النقد والابتكار في حل المشكلات.
6- الاهتمام بالأنشطة اللاصفية وتعزيز دورها في العملية التربوية لإشغال الطلبة في أوقات فراغهم بما ينفع ويفيد نموهم العقلي والنفسي والجسمي والخلقي.
7- تفعيل دور مجالس الآباء والمعلمين بما يخدم تعزيز العلاقة بين البيت والمدرسة في مساندة المدرسة على الاستفادة من الامكانات التي يزخر بها المجتمع المحلي لتطوير عملها.
8- توفير دعم فني ولوجستيكي للمدارس ذات الأداء الضعيف ووضعها في دائرة التركيز لمساعدتها على النهوض بأدائها وفق المستويات المطلوبة.
9- تبني نظام تحاسبي حازم مع المدارس ذات الأداء الضعيف وأخذ إجراءات إدارية تصحيحية تجاه الهيئات الإدارية والتعليمية التي لا تبذل جهدها لتحسين أدائها.
10- تطوير برامج إعداد معلمي المرحلة الثانوية بالتعاون مع جامعة البحرين لإعداد معلمين قادرين على أداء واجبهم وفق مستويات أداء عالمية مع تبني نظام لاختيار وتوظيف المعلمين يضمن انتقاء من يتمتعون بالمستوى المناسب من حيث التخصص والتأهيل التربوي.
عضو مجلس الشورى، والورقة مقدمة إلى مؤتمر «تطوير التعليم الثانوي في إطار توحيد المسارات» الذي عقد في الفترة من 12 إلى 14 ابريل/ نيسان الجاري
إقرأ أيضا لـ "حمد علي السليطي"العدد 591 - الأحد 18 أبريل 2004م الموافق 27 صفر 1425هـ