لو كنت أعني «ايديولوجية» المفاهيم المتناقضة التي يتخذها كل طرف في الصراع ضد الآخر، قوميا وصهيونيا، إسلاميا وتلموديا، لما استخدمت تعبير «أدلوجة»، إذ تكفي الإشارة إلى القومية العربية في مقابل الصهيونية الإسرائيلية، ثم امتداد العروبة إلى العمق الإسلامي وامتداد الصهيونية إلى التلمودية والمسيحية الصهيونية. ولكني أعني «أثر» الايديولوجية في هذا الصراع. ولو كنت أعني «تاريخ» الصراع لما قلت «تاريخانية» التي تعني فهما محددا «للكيفية» التي انتج بها التاريخ هذا الصراع، لا مساراته الزمانية ووقائعه.
ولو كنت أعني «الصراع» الاستراتيجي والسياسي في دائرة «الوطن العربي» كما يفهم القوميون، ودائرة «الشرق الأوسط» كما يفهم الصهيونيون لما قلت «بالتدافع» ولاكتفيت «بالصراع»، فالتدافع يمضي «لما وراء الظاهر» من مقومات الصراع الاستراتيجي والسياسي سواء بالنسبة إلى الموقع الجغرافي ـ السياسي الذي احتلته إسرائيل وشطرت به العرب إلى قسمين آسيوي وإفريقي، أو بالنسبة إلى تغلغل إسرائيل في أجهزة ومؤسسات صنع القرار الدولي، فهذا صراع استراتيجي له قاعدته الجغرافية ـ السياسية في الأرض الفلسطينية وجوارها الإقليمي. أما التدافع فهو ينطلق من بقعة صغيرة داخل هذه الأرض الفلسطينية ما بين البحر والنهر، وهي «القدس». فالتدافع ينطلق من «داخل أسوار» القدس، أما الصراع الاستراتيجي فهو خارج هذه الأسوار بعمق الأراضي ما بين نهر الأردن شرقا والبحر الأبيض المتوسط غربا والبحر الأحمر جنوبا. فحين يكون «الصراع» نكتفي بملفات مراكز الدراسات الاستراتيجية. أما حين يكون «التدافع» فتطل علينا «الأدلوجة» و«التاريخانية» حفرا معرفيا حداثيا في «ما وراء» الصراع الذي يختصر المسألة كلها داخل أسوار القدس لا خارجها، فيكون «التدافع».
والتدافع تعبير مستمر من هذه «المارائية» نفسها التي تختصر المسألة برمتها في «القدس» وما هو مقدس في تلك الأرض، والتي جعلت الحركة الصهيونية العالمية تتجه إليها عوضا عن «يوغندة» في البحث عن منطقة استيطانية منذ مؤتمر «بازل» في سويسرا العام 1897 وقبل ما يقال عن محرقة النازيين لليهود في فترة الأربعينات من القرن الماضي. وكذل عوضا عن «الاندماج» الحضاري في الشعوب التي تداخلوا معها فيما يسمى بمرحلة «الشتات».
الايديولوجية والنبوءة
في إطار الايديولوجية تتعدد كما تتنوع النبوءات الدينية حول مستقبل «التدافع».
فالأصولية التلمودية تنتظر ظهور المسيح اليهودي لأول مرة، ملكا للإسرائيليين، وبانيا للهيكل، إذ يحكم العالم كله من هناك، فالأصولية التلمودية لا تعرف بأن السيد المسيح (عليه السلام) قد ظهر قبل واحد وعشرين قرنا.
أما الأصولية المسيحية المتنفذة بعددية سبعين مليونا من اتباعها في الولايات المتحدة الأميركية فقط فينتظرون «عودة» المسيح «للمرة الثانية» ليحكم العالم بعد أن ينجز الإسرائيليون الراهنون بناء الهيكل وحيث سيحكم العالم من القدس بوصفه «مخلصا». وذلك بعد معركة تذهب بالشر من العالم.
ثم هناك من المسلمين طوائف ومذاهب شتى، تنتظر أيضا عودة السيد المسيح ليقتل المسيخ - بالخاء - الدجال في «باب اللد» ويقضي بذلك على الشر في العالم. وحين يعود السيد المسيح - بالمنظور الاسلامي خلافا للمنظور الأصولي المسيحي - فسيحكم بالشريعة الاسلامية. ويتلو ذلك المعارك التي ستنشب بين المسلمين واليهود فيحتمي فيها اليهود بشجر «الفرقد» وينطق فيها الحجر محذرا المسلم من أن بالوراء يهوديا أو من خلفه.
«العلمانيون» كما «الوضعيون» حتى من بين المسلمين أو المسيحيين أو اليهود لا يحفلون كثيرا بهذه «المأثورات الدينية» إذ ينصرفون إلى الجوانب الاستراتيجية في «الصراع» خارج منطق «التدافع» وما ورائياته. ولا ينظرون إلى هذه المأثورات إلا في إطار الفهم الشعبي العام «لصدام الحضارات» وكخلفيات تعبوية تراثية، وأن المآل النهائي لصدام الحضارات هو صعود الحضارة الأميركية الجديدة بمنطق «الليبرالية» نهاية للتاريخ الانساني في إطار «العولمة» إذ يتم تفكيك الأطر التاريخية للقوميات والايديولوجيات المعاصرة كافة وإعادة صياغتها مجددا. فيستبدلون ظهور السيد المسيح وقانونه الديني بظهور وانتصار العولمة الليبرالية المتناقضة في كل مناهجها البراغماتية والأخلاقية مع قيم السيد المسيح وقيم الأديان كافة.
فكما أن الذي ينتظر السيد المسيح لا يمكن أن «يقولم» كذلك فإن «المتقولمين» لا ينتظرون السيد المسيح.
التاريخانية والفكر المشوه:
أخطر ما في التاريخانية المنتجة للأفكار ومواصفاتها «بشريا» وليس «وحيا دينيا» ـ ويجب التمييز القطعي بين الحالتين ـ أن الأفكار الناتجة عن بيئتها الثقافية ونمطها العقلي البشري تتلبس «حالا قدسية» لتظل دائما متعالية فوق موجبات النقد العقلي مهما تطورت بيئة هذا العقل وتغيرت مناهجه الادراكية باتجاه «علمي استقرائي» تجاوز حتى مرحلة المناهج «العقلية الاستدلالية الطبيعية». فحين «تتقدس» نتاجات هذه التاريخانية البشرية ومورثاتها المتحددة من وراء التاريخ ثم تتداخل مع السياسة نجد رجلا في قمة مؤسسات العولمة الأميركية المعاصرة مثل نائب الرئيس الأميركي «ديك تشيني» أحد أبرز رموز «البروتستانت» الآخذين بمنظورات المسيحية الصهيونية وينتظرون نشوب معركة «هرمجدون» في إسرائيل لتحقيق غاية «نهاية الزمن أو الأيام» وإلى جانب ديك تشيني يقف تماما وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد. ويستمعان معا، وبكل قدسية لما يصدر من مواعظ تحريضية عن القسين لات روبرتسون وجيري فالديل وهما أكبر متجرئين في أميركا على نبي الإسلام محمد (ص) وعلى الإسلام ومقدساته. والقس روبرتسون هو مؤسس التحالف أو «الائتلاف المسيحي» في واشنطن الذي يبدأ كلماته دائما: «نحن هنا، موجودون بالملايين من أجل إسرائيل» فقيام إسرائيل شرط لازم لعودة المسيح - في عرفهم واعتقادهم. مع إدراكهم تماما أن الإسرائيليين لا ينتظرون مثلهم عودة مسيح المسيحيين، ولكن مسيح اليهود الذي لم يحدث أن ظهر إطلاقا. وعلى ضوء فهم المسيحيين المتحالفين حاليا مع الإسرائيليين في الولايات المتحدة الأميركية بزعامة القس «جيمس هتثنس» فإن مسيح المسيحيين سيبيد اليهود إبادة ولا يبقي منهم إلاّ من يؤمن به، ثم يسلم المسيح الأرض المقدسة إلى المسيحيين.
إذا: كيف يقبل المنطق - أي منطق - تحالفا بين تيار بروتستيني مسيحي يستعجل عودة المسيح لابادة اليهود واليهود الذين سيبادون؟!
عبّر عن هذه الاشكالية أستاذ العلوم السياسية في «الجامعة العبرية» في «بالتيمور» روبرت فريمان حين قال: «المشكلة التي أواجهها تتعلق بالإيمان بالآخرة ـ رؤية نهاية الأيام في الانجيل والتوراة ـ إنهم مؤيدون أقوياء لعودة اليهود إلى إسرائيل... لكنها «وسيلة» لتحقيق غاية» ـ ذلك ضمن استطلاعات «تاتشا روبرتسون» في العدد الأخير من «بوسطن جلوب» بعنوان: «الانجيليون يتدافعون للدفاع عن إسرائيل».
ثم يرى هؤلاء أن أعمال العنف في المنطقة ما هي إلا مقدمات لمعركة «هرمجدون»، ويستحثون «أريل شارون» عبر جمعياتهم المنتشرة في فلسطين على مزيد من العنف لتمهيد الطريق لعودة المسيح. ويقدم هؤلاء عبر جمعية «جسور السلام» التي يترأسها «كلارنس واجنر» في أميركا والتي تنتظر عودة المسيح «لتحقيق السلام»، أكثر من (20) مليون دولار سنويا لدعم مشروعات الهجرة الإسرائيلية إلى فلسطين.
المثير جدا هنا أن رؤية هؤلاء من البروتستنت لعودة المسيح الذي سيبيد الإسرائيليين في النهاية، ويدعمون إسرائيل حتى تبقى تمهيدا لعودته، إنما ينذرون الإسرائيليين «بمحرقة أشد»، وذلك من علامات وضرورات عودة المسيح في عرفهم، لهذا لا يعمد هؤلاء من البروتستنت للتبشير بالمسيحية في المجتمع اليهودي أو الإسرائيلي، حتى لا يقتنع الإسرائيليون بالمسيحية قبل عودة المسيح وقبل معركة «هرمجدون»، فذاك من شأنه الحيلولة دون عودة المسيح!
والسؤال: أي لاهوت هذا؟
في دراستي للمؤرخ آرنولد توينبي توقفت كثيرا لدى الرسائل التي كانت متبادلة بينه قبل وفاته العام 1975 والكاتب في علم الأديان اليهودي «ابراهام روزنتال» حول رؤية كل من المسيحيين واليهود للسيد المسيح، وقامت «التايمز» بنشرها بتاريخ 20 ديسمبر/ كانون الأول 1975 وقمت بترجمتها للعربية لأهميتها في 29 مارس/ آذار 1979.
رأى «توينبي» أن ثمة إشكالية كبيرة في فهم السيد المسيح وهو بالتحديد يسوع الذي ظهر في فلسطين لدى المسيحيين واليهود على السواء. فاللاهوت المسيحي قد أخرج السيد المسيح عن «حقيقته» إذ لم يعتقد المسيح يوما بأنه «إله» بنص «انجيل متى» ـ الاصحاح رقم 19 ـ العدد 17. «لماذا تدعونني صالحا... ليس أحد صالحا إلا واحد هو الله». فالسيد المسيح ـ في رأي توينبي وبعد تحليله لشخصيته وآثاره التاريخية ومواقفه وأقواله «كان سيشجب التصورات المسيحية عنه التي نشأت من بعده» فهناك «مخيلة مسيحية» تاريخانية الجذور الثقافية ألبست السيد المسيح غير ثوبه التوحيدي.
ثم رأى توينبي أن منظورات اليهود للسيد المسيح قد تأثرت بالأجواء التاريخانية للبقية المتبقية من الحضارة «السريانية» القديمة.
لم يستند توينبي إلى أية آية قرآنية كريمة حين توصل عبر دراسته التاريخية العلمية إلى تاريخانية الثقافتين المسيحية و«جذور مخيلتها» وتلك الإسرائيلية وجذورها «السريانية» لشخصية السيد المسيح ورسالته، وليس توينبي وحده هو الذي انتهى علميا للنتائج ذاتها ـ أو ما يقاربها ـ التي انتهى إليها القرآن الكريم، فهناك دراسات أخرى كتلك التي أقدم عليها برونو باور في كتابه المرجعي الصادر العام 1840 بعنوان: «نقد تاريخ انجيل القديس يوحنا» ثم الذي تلاه العام 1841 بعنوان: «نقد تاريخ الاناجيل الأربعة وانجيل يوحنا» ومعنى برونو باور لا يعد من ذلك ـ ودون أن يستند إلى القرآن الكريم ـ حين أصدر «نقد التفسير اللاهوتي للأناجيل» في العام 1852 في برلين إذ ميز بين التوراة الأصلية والانجيل ورفض الربط بينهما كعهدين جديد وقديم.
ينفقونها ثم تكون حسرة عليهم
إن إيغال هذه الطوائف والتيارات البروتستينية المتصهينة في الهجوم على خاتم الرسل والنبيين محمدا عليه أفضل الصلاة والتسليم وتدنيسها لمفاهيم الدين الإسلامي وتشويهها لصورة العرب والمسلمين وكيفية تحرشاتها في مجالسها الكنسية الآن في الولايات المتحدة وبالذات في ولايات مسيسبي وكولورادو وأجزاء من ماساتشوستس - وهي الولايات التي ينطلقون منها - وتخرصات القسين المقربين للبيت الأبيض وهما لات روبرتسون وجيري فالويل.
هذا كله يجب أن يوضع له حد، وليس بالتفجيرات التي تأخذ البريء بذنب المذنب وتزر فيها وازرة وزر أخرى، وليس بالإنفاق الاعتباطي للأموال العربية على «متسولي» مؤتمرات الحوار الديني ولكن بترجمة «النقد الأوروبي الغربي» و«بأقلام غربية» للتحريفات اللاهوتية التي ألبست على اليهود دينهم كما ألبست على النصارى دينهم فأصبحنا أمام هذه الظاهرة التي وصلت الاساءة لديها إلى مقام سدرة المنتهى صلى الله عليه وسلم
العدد 59 - الأحد 03 نوفمبر 2002م الموافق 27 شعبان 1423هـ