في ذكرى الحصار المنزلي واعتقال الشيخ عبدالأمير الجمري (1وثم 14 ابريل / نيسان 1995) تنشر «الوسط» بعض الأوراق القليلة من المذكرات التي كتبها بيده قبل مرضه، لالقاء الضوء على بعض جوانب الحياة والكفاح التي تهم القارئ من حياة هذا الرجل الذي لعب دورا مهما وبارزا في الحياة السياسية والاجتماعية في البحرين.
الشيخ عبد الأمير الجمري
أبدأ الحديث عن نسبي: والدي هو منصور بن الحاج محمد بن عبدالرسول بن محمد بن حسين بن إبراهيم بن مكي بن الشيخ سليمان الجمري البحراني، وتعرف أسرتنا بآل الشيخ سليمان، وبآل محمد. وبلحاظ انشطار الأسرة إلى شطرين من ولدي إبراهيم بن مكي المذكور وهما حسين المذكور وأخوه، عرف شطر منها بآل عبدالرسول، والشطر الآخر بآل إبراهيم.
وهذا التسلسل النّسبي تلقّيته وتلقّاه غيري من أبناء الأسرة من العم الخطيب المغفور له ملا عطية بن علي الجمري باعتباره أبرز شيوخ الأسرة، وهو بدوره تلقّى هذا التسلسل من كبار الأسرة الذين أدركهم.
ولدتُ في القرية المعروفة بـ «بني جمرة» من قرى البحرين، وهي قرية آبائي وأجدادي، وفي الأصل هذا الاسم يعني قبيلة تنحدر من قبيلة «مضر» في قول، من قبيلة «نمير» في قول آخر، وكلا القولين يذكرهما صاحب كتاب «سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب»، ثم صار يطلق الاسم على المحلّة التي تسكنها هذه القبيلة. اصل القبيلة من اليمن، وموجودة لحد الان هناك باسم «جمرة»، كما ان فروعها التي هاجرت منذ مئات السنين (ربما قبل الاسلام) موجودة في لبنان (وقيل انهم في قرية مسيحية هناك اسمها إهدن)، وفروع اخرى موجودة في السودان وفي العراق.
كانت ولادتي في ليلة الجمعة 28 ذي الحجة سنة 1356 للهجرة النبوية (1937م)، ونشأتُ وتربَّيتُ في كنف والدي التقي العارف منصور الحاج محمد الجمري طيّب الله ثراه، وقد بذل قصارى جهده في تربيتي، وأدخلني مدرسة البديع الابتدائية للبنين، وكان كثيرا ما يصحبني معه إلى المجالس التي يذهب إليها، وإلى السوق أحيانا، حينما يذهب لقضاء شئونه وشراء حاجياته. وصار يعلّمني القرآن بعد إكمالي السادسة من عمري، حتى نهاية الجزء التاسع، وفهمتُ باقي الأجزاء بلا معلِّم. وفي هذه السن علّمني الوضوء والصلاة.
درست في مدارس البحرين وتعلّقت نفسي منذ صغري وانا في الابتدائية بالمنبر الحسيني، فكنت أقرأ مقدما للخطيب ملا جاسم محمد حسن نجم الجمري.
حياتي الزوجية
كان زواجي من ابنة العم: زهراء ملا يوسف ملا عطية الجمري (ام جميل)، وكنت قد أكملت العشرين، وهي قد أكملت السادسة عشرة، بتأريخ 19 فبراير / شباط1957م ، 20 شهر رجب 1376هـ. ووجدتُ في هذه الزوجة الكريمة بغيتي وأُمنيتي خَلقا وخُلُقا وصدقا ووفاء والتزاما، ولقد وقفت معي موقف المؤازرة في كل ادوار حياتي، وقد شاء الله سبحانه لي معها حياة زوجية سعيدة جدّا، ولم أكن معها لأرى يوم بؤس أبدا في كل الأحوال والأطوار التي عشناها، وأرى من باب الوفاء أن اذكر بعض مواقفها كنموذج لمؤازرتها ووفائها وكفاءتها:
بعد الزواج بفترة قصيرة، وحيث انها تجيد الخياطة، وإحساسا منها بحالتي المادية وتدنيها آنذاك طلبت مني أن اشتري لها ماكنة خياطة، فاشتريتها بمئتي روبية اذ كان النقد آنذاك هو الروبية، ثم طلبت أن آتي لها بـ «طاقة قماش» وصارت تفصّل وتخيط أقمصة وألبسة، وتدفع إليّ الكمية التي تجهزها فأذهب بها إلى السوق وأدفعها إلى بعض الباعة يبيعها وله فائدة. فاستفدت من فكرتها وجهدها كثيرا جزاها الله خيرا.
وعندما أردتُ الهجرة إلى النجف الأشرف للدراسة في العام 1962 عارضني أهلها خوفا عليها بلحاظ أنني كنت فقيرا، وحدث بيني وبين العائلة خلاف، واصررت على موقفي واصروا على موقفهم، فحسمت هي الموقف بحزمها وايجابيتها واخلاصها حين قالت: «لا تهتم أين ما تذهب أذهب معك»، وهكذا كان فهاجرتُ وهاجَرَت معي بطيب نفس.
وفي بعض السنين مرت بي حال ضيق في النجف الأشرف، وضاق صدري، حتى اني عرّضت نفسي للاستدانة من بعض المؤمنين فاعتذر، فلما رأت ما بي من ضيق الصدر قالت بصدق وايجابية: «خذ ذهبي وارهنه، واذا تمكنت من فكّه فكّه، ولا تهتم».
وعزمتُ على الذهاب الى السوق الكبيرة لأرهن ذهبها عند بعض الصاغة، ولكن تصورتها كيف ستبقى - وهي شابة - من دون ذهبها وزينتها، فتراجعت عن رهن ذهبها، وهنا فتح الله عليّ ويسَّر لي المصرف بما يشبه المعجزة، اذ دخلت إلى مكتبي وفتحت بعض الكتب انظر فيها، وإذا بي أرى فئة لعشرة دنانير عراقية، فأخذتني الرهبة والدهشة والعجب اذ لم اذكر انني وضعت في هذا الكتاب أو غيره مالا، وليس هذا من عادتي، وليس هناك غيري يتصرّف في المكتبة أو يمارس استعمال الكتب فيها. وهذا القدر من المال هو الذي طلبت من ذلك المؤمن - غفر الله له - أن يقرضني إياه فاعتذر.
هذه نماذج من مؤازرتها ومواقفها. أما أخلاقها معي وصبرها وحبّها لزوجها فذلك في اعلى المستويات، كما ان حبي لها يكاد يتجاوز الحدود الطبيعية، فحياتنا الزوجية سعيدة جدا، لله الحمد والمنة على حسن توفيقه. وبالنسبة لما يحدث من خلاف في الرأي بشأن بعض المسائل والأمور المعيشية والبيتية وبعض القضايا ما أسرع ان يزول لوجود التفاهم والحوار وعدم التعصب وبناء الامور على القناعة. واشهد الله اني استفيد من النقاش معها، ولقد كانت في النجف الأشرف تقوم بكل لوازم البيت من شراء الحاجات وترتيب المنزل وتربية الأولاد وسائر الشئون، وكنت مشغولا بدراستي فقط. وكنت أسافر إلى البحرين كل عام مرة أو مرتين لقراءة شهر رمضان وعشرة عاشوراء وأتركها غالبا في النجف مع الأولاد، فتقوم بالرعاية وتدبير الأمور خير قيام. فكانت خير مؤازر ومعين.
ولقد كشفت التجارب التي عشتها صبرها وصدقها وثباتها، فكانت بحق أعظم نعم الله عليّ بعد نعمة الإسلام. أذكر في 6 سبتمبر/أيلول 1988 وقد جاء العقيد عادل فليفل مع عدد من ضباط الأمن لاعتقالي فوقفت بباب المنزل حائلة بين القوم وبيني لا تدع أحدا يدخل إلى المنزل، وصارت تتكلم لأولئك بصوت ومنطق شجاع ما كنت أتوقعه منها، ولو لم أتدخل في إقناعها خشية أن يمسوها بسوء أو يغلطوا عليها، لما غيرت مكانها ولهجتها، ولما تمكنوا من اخذي. ولقد كانت ممسكة بجواز سفري وهم يريدون اخذه، ولو لم أتدخل في اقناعها لما أمكنهم تسلمه، فأخذته من يدها وسلّمته إليهم. واذكر من كلماتها في وجوههم بصوت عال وهم يريدون دخول المنزل للتفتيش: «لماذا تفتشون منزلنا؟ هل عندنا متفجرات أو قنابل، من أين تأتينا، من أي طريق، هل نزرعها زراعة فنحصل عليها؟»!
ولقد حالت بقوة موقفها بينهم وبين الدخول إلى التفتيش. وعندما أرادوا أخذي لإركابي في السيارة قالت: «لا أدعكم ابدا أن تأخذوه حتى أُخبر الناس، انكم ستأخذون رجلا له ثقله ولستم تأخذون حيوانا»، وابتدرت الى مكبر الصوت في جامع الإمام زين العابدين (ع) المجاور للمنزل، ورفعت صوتها: «أُخذوا ابو جميل، جاءوا لاعتقاله يا ناس، يا مؤمنين»، فصار الناس يتواردون من كل جانب رجالا ونساء وشبابا وشيوخا، وكانت هي السبب في حصول المظاهرة الصاخبة بسبب اعتقالي (6 سبتمبر 1988) واضطرارهم إلى إعادتي بعد ساعة وربع تقريبا (في هذه الايام اعتقل زوج ابنتي عبد الجليل خليل ابراهيم، وابني الاكبر محمد جميل، وحكمت عليهما محكمة امن الدولة لاحقا بالسجن 7 و 10 سنوات على التوالي). ولقد قلتُ في حقها من قصيدة لي التي نظمتها في سجني الثاني، عدا قصيدتين خالصتين فيها إحداهما بالفصحى والأخرى باللغة الشعبية، قلت مخاطبا نفسي:
حبتك السماء بإنسانةٍ
حمدتَ ولازلتَ منها الشّيَم
مؤازرةٍ عبرَ كلّ الظروف
معاونةٍ، من عظيم القِسَم
أنرتِ حياتي ملأت الضمير
كذا العينَ، سُلِّمت من كلّ ذم
ولقد كان موقفها وأنا في سجني الأول والثاني موقفا رائعا وفريدا، من حيث الصبر والثبات ورعاية العيال، والمطالبة بي وتفقد أحوالي، والنشر والإعلام، فكانت بحق في الانتفاضة المباركة الشرعية عنصرا فعالا.
دراستي العلمية
السبب في دراستي العلمية هو أنني كنت أقرأ فاتحة المرحوم الحاج عبدالله أبو ديب (ره) في مأتم القصاب، وهو شخصية بارزة في البحرين، ومن أعضاء الهيئة التنفيذية العليا التي تأسست في اكتوبر 1954م (سُمّيت بعد ذلك بهيئة الاتحاد الوطني) وكانت تمثل وتقود الشعب كله في نضال سلمي من أجل تحقيق مطالبه، وتتلخص في تكوين مجلس تشريعي وتأسيس نقابات عمالية وسنّ قوانين مدنية عادلة. واستمرت الحركة ثلاث سنين، ثم قمعها الجيش البريطاني واعتقل أعضاء الهيئة وسفّر عددا منهم أواخر العام 1956م.
كانت فاتحة هذا الرجل ضخمة جدا، يحضرها السنة والشيعة، وكانت قراءتي وأنا في سنّ مبكرة، وقد حضر سماحة الشيخ عبدالله بن الشيخ محمد صالح مجلسي، إضافة إلى ثمانية من أهل العلم منهم المرحوم الشيخ باقر العصفور والسيد جواد الوداعي والشيخ أحمد العصفور والمرحوم الشيخ عبدالعظيم الربيعي. وتناولت موضوعا في المراقبة الإلهية كنت قد استقيت أكثره من كتاب للأستاذ عباس كرارة المصري، وقد أعجب الموضوع الجمهور، وكان هو سبب ارتباطي بالشيخ عبدالله بن الشيخ محمد صالح (قدس سره)، إذ أشار إلي بعد القراءة بيده فقمت، فأخذ بيدي، وصار يحدثني وهو متّجه إلى السوق عن الدراسة العلمية ويحثني عليها حثا شديدا، حتى زرع في نفسي العزم على ذلك والشوق إلى الدراسة. فقلت له: ومن يدرّسني؟ فقال: أنا أدرسك.
وبدأت ادرس عنده لمدة سنتين مدة متقطعة، هاجرت بعدها إلى النجف الأشرف في 1962م بحسب إرشاده وحثّه لي. علما بأني قبل هذه الفترة حضرت عنده مدة شهر تقريبا وذلك قبل زواجي، وذلك في مسجد الخواجة في المنامة، إذ كان يدرس هناك المدة المذكورة ويحضر عنده بعض الخطباء المتقدمين في السن، وسجلت الدروس التي تلقيتها عنده بقلمي.
كان الدرس في بعض الأمور العقائدية والفقهية، وكان يُملي بعض الجُمل عليّ على ظهر
العدد 586 - الثلثاء 13 أبريل 2004م الموافق 22 صفر 1425هـ